الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/08/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / التفصيل في حجة الظهور

الكلام فيما يترتب على تفصيل المحقق القمي على تقدير ثبوته كما هو غير بعيد ويقع في جهتين:

الجهة الأولى: هل المراد بالمقصودين بالإفهام هو خصوص المخاطبين أو خصوص الحاضرين في زمان الخطاب أو يعم حتى المعدومين في زمان الخطاب كما هو الحال بالنسبة إلينا بلحاظ الخطابات الشرعية ، فهل نحن مقصودون بالإفهام في الخطابات الشرعية ؟

الجهة الثانية: وعلى تقدير عدم كوننا مقصودين بالإفهام فهل يمنعنا تفصيل المحقق القمي من التمسك بظهور الخطابات الشرعية ؟

أما الجهة الأولى فالظاهر أنه من الصعوبة بمكان إثبات كوننا مقصودين بالإفهام بلحاظ جميع الخطابات الشرعية وذلك باعتبار أنَّ بعض الخطابات الشرعية وردت جواباً عن سؤال خاص فيصعب إثبات أنَّ المقصود هو تفهيم الجميع حتى المعدومين ، نعم يمكن فرض ذلك في بعض الخطابات الشرعية كالخطابات القرآنية باعتبار أنَّ الغرض من إنزال القرآن هو هداية الجميع فالمخاطب به جميع البشر من دون إختصاص بطائفة دون طائفة ، وكذا يمكن ذلك في بعض النصوص الشرعية غير القرآنية كالخطابات الإبتدائية غير المسبوقة بسؤال كالقواعد العامة التي يُبينها المعصوم عليه السلام إبتداءً نحو (الولد للفراش وللعاهر الحجر) و (من حاز ملك) ونحوها ، وأما الخطابات من النحو الأول فغاية ما يمكن قوله هو أنَّ الإمام يقصد تفهيم هذا السائل ومن حضر مجلس الخطاب وإفتراض أنه قصد تفهيم غير الحاضرين في مجلس الخطاب فضلاً عن المعدومين صعب جداً.

فإلى هنا نقول من الصعوبة إثبات أنَّ جميع الخطابات الشرعية يكون المقصود بالتفهيم هو جميع الناس الحاضرين في مجلس الخطاب والغائبين عنه والمعدومين أيضاً.

فإذا آمنا بذلك فسنواجه مشكلة في النصوص التي ورد فيها الحكم جواباً عن سؤال معين وهي الأكثر - وإن لم نواجه ذلك في النصوص القرآنية والنصوص الإبتدائية - فيشكل تمسكنا بظواهر هذه النصوص بناءً على تفصيل المحقق القمي.

ولدفع هذا الإشكال يقال:

إنَّ المانع من العمل بالظهور بالنسبة الى غير المقصودين بالتفهيم - ونحن منهم بحسب الفرض - هو إحتمال أنَّ المتكلم يريد خلاف ظاهر هذا الكلام وقد نصب قرينة متصلة إعتمد عليها لتفهيم إرادة خلاف الظاهر ولم تصل هذه القرينة إلينا والدعوى تقول إذا أمكن نفي هذا الإحتمال فلا مشكلة في التمسك بالظهور وإن كنا غير مقصودين بالتفهيم ، والنافي لهذا الإحتمال هو شهادة الناقل فإنه إذا سكت عن بيان قرينة محتفة بالكلام فهذه شهادة منه بعدم وجودها لأنّ الناقل ملزم بنقل كل ما يكون دخيلاً في فهم مراد المتكلم وحذف شيء من ذلك خلاف أمانة النقل والمفروض أنه ثقة وضابط وأمين فعندما ينقل الكلام من دون نقل قرينة على إرادة خلاف الظاهر فلابد أن يكون مراد المتكلم هو ظاهر هذا الكلام ، فيكون الظهور حجة.

وبعبارة أوضح :كما أنَّ المتكلم إذا أراد خلاف ظاهر كلامه يجب عليه أن ينصب قرينة على ذلك فكذلك الناقل إذا أراد نقل الكلام الى غيره ملزم بأن ينقل الكلام بجميع الخصوصيات المحيطة به والتي تشكل قرائن تشخص مراد المتكلم، وعدم نقلها خلاف أمانة النقل ، وهذا ما يمكن تطبيقه على كل واسطة من هذه الوسائط فمثلاً لو سمع زرارة من الإمام عليه السلام مباشرة وأراد نقل الكلام الى محمد بن مسلم فلابد من نقله بجميع ما أحاط به من القرائن التي تشخص مراد المتكلم ، ولو نقل الكلام من دون نقل القرينة فهذا يعني عدم وجود قرينة على إرادة خلاف ظاهر الكلام فيثبت أنّ مراد المتكلم هو ظاهر كلامه ، وكذا نقل محمد بن مسلم هذا الكلام الى غيره فيقال لو نقل له زرارة قرينة لذكرها هو في نقله لأنها دخيلة في فهم مراد المتكلم ، وهكذا الى أن نصل الى الناقل المباشر لنا ، فالناقل ملزم بنقل ما يكون دخيلا في فهم مراد المتكلم ، فيمكن الإعتماد على ظاهر هذا الكلام لنفي إحتمال وجود قرينة متصلة على إرادة خلاف الظاهر ، فإذا تم هذا الجواب أمكن التمسك بظاهر الخطابات الشرعية جميعاً حتى ما كان من قبيل الجواب عن سؤال خاص ، وبناءً عليه لا يكون لهذا التفصيل أثر في جواز التمسك بظاهر الكلام حتى في غير القصودين بالتفهيم.

والمشكلة في هذه المحاولة هي أنها لا تجدي فيما إذا كانت القرينة إرتكازية لبية لا يرى الناقل نفسه ملزماً بنقلها ، والقرائن الإرتكازية اللبية تختلف فبعضها مرتكز عند الجميع وبعضها مرتكز في أذهان المخاطبين أو المعاصرين لزمان النص ولا مشكلة في النوع الأول لأنها مدركة عند الجميع بحسب الفرض وإنما الكلام في النوع الثاني الذي لا يدركه الجميع كما في وضوح الشيء عند المخاطب وكونه مفروغاً عنه بنحو يمكن للمتكلم أن يعتمد عليه في بيان مراده فقد لا يرى الناقل نفسه ملزماً بنقل هذه القرينة ولا يرى أنَّ عدم نقلها مخالف لمقتضى الأمانة ، بل قد لا يُحمِّله الآخرون المسؤولية بنقل قرائن من هذه القبيل ، فيشكل تطبيق هذه الطريقة في هذه القرائن لإثبات حجية الظواهر بالنسبة إلينا ، ويستحكم الإشكال لو فرض تحققه بالنسبة الى الخطابات القرآنية لأنَّ القرائن الإرتكازية لا يمكن ذكرها كجزء من القرآن كما هو واضح.

والنتيجة الى هنا هي أنَّ الإشكال يبقى قائماً في النصوص الواردة كجواب عن سؤال فلا يكون ظهور هذا الخطاب حجة بالنسبة إلينا.

الجهة الثانية: لو سلمنا أننا غير مقصودين بالإفهام بلحاظ الخطابات الشرعية حتى غير الواردة كجواب عن سؤال وفرضنا عدم تجاوز الإشكال السابق ولو في موارد معينة فهل يمنعنا ذلك من الأخذ بظواهر النصوص الشرعية ؟

الذي يقال في المقام هو بالإمكان أن نعتمد على سيرة المتشرعة لإثبات حجية الظواهر بالنسبة إلينا فإنّ أصحاب الأئمة عليهم السلام إنعقدت سيرتهم على العمل بالظواهر من دون ملاحظة أنهم مقصودون بالتفهيم أو غير مقصودين به ومن دون فرق بن زمان وزمان فهم يعملون بظواهر النصوص الواردة إليهم في جميع الأزمنة ، ومن دون فرق بين النصوص المنقولة إليهم شفاهاً بوسائط أو المنقولة إليهم من خلال الكتب والمؤلفات فهم يعملون في جميع هذه الموارد بظواهر الكلام ويبنون على أنه حجة بالنسبة إليهم ، بل لا يفرقون بين الخطابات القرآنية وغيرها في حجية ظواهرها ، فيقال إنّ هذه السيرة للمتشرعة إذا فرضنا أنها سيرة متشرعة بالمعنى الأخص - وهي التي ينحصر تفسيرها بالتلقي من قبل الشارع وتكشف عن رأيه كشف المعلول عن العلة - فهي تكشف عن الإمضاء الشرعي لظواهر هذه النصوص مطلقاً فيثبت المطلوب وهو أنّ ظواهر هذه النصوص حجة بالنسبة إلينا ، وأما إذا إستبعدنا كون عملهم بالظواهر متلقى من قبل الشارع كما هو الظاهر ولا أقل من إحتمال ذلك فتكون سيرة متشرعة بالمعنى الأعم وهي وإن لم تكشف عن رأي الشارع كشف المعلول عن العلة ولكن يمكن التمسك بها بعد فرض إنعقادها على العمل بظواهر النصوص مطلقاً سواءً كان بناءهم على أنَّهم مقصودون بالإفهام أو كان بناؤهم على أساس إبطال تفصيل المحقق القمي شرعاً وذلك بأن يكون التفصيل ثابت بمقتضى موازين المحاورة العرفية إلا أنَّ الشارع بين خطأ هذا التفصيل وقال لا فرق بين المقصودين بالإفهام وبين غير المقصودين بالإفهام ويكون عمل المتشرعة إبطالاً عملياً لهذا التفصيل ، أو نفترض أنَّ عملهم مبني على أساس تخطئة المحقق القمي ولكن لا من ناحية شرعية وإنما بملاحظة أنَّ المرتكزات العقلائية لا تساعد على هذا التفصيل ، فيكفينا عمل المتشرعة بالظهور مطلقاً لإثبات صحة العمل بهذا الظهور مطلقاً والبناء على حجيته كذلك أياً كان الوجه الذي نشأ عليه عملهم لأنَّه عمل المتشرعة فنطبق عليه القواعد المتقدمة فنقول إنَّ هذه سيرة جرت بمرأى ومسمع من الإمام عليه السلام ولم يردع عنها فنستكشف من ذلك الإمضاء ، فيمكن إثبات حجية الظواهر مطلقاً بالنسبة إلينا حتى إذا إلتزمنا بتفصيل المحقق القمي.

ومن هنا لا نصل الى النتيجة التي وصل إليها المحقق القمي فإنه بعد أن نفى الحجية عن غير المقصودين بالإفهام وانسد هذا الباب من أبواب معرفة الأحكام الشرعية ذهب الى حجية الظن المطلق ، ونحن نقول لم ينسد هذا الباب ولا حاجة الى إفتراض حجية الظن المطلق.