43/07/21
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / التفصيل في حجة الظهور
الكلام في تفصيل المحقق القمي في حجية الظهور حيث إدعى أنَّه حجة في حق المقصودين بالإفهام ولا يكون حجة في حق غير المقصودين بالإفهام وهذا هو ظاهر كلامه ، وأما نسبة التفصيل بين المشافهين بالخطاب وغير المشافهين به إليه فخلاف ظاهر كلامه ، والفرق بينهما واضح فقد يكون الشخص غير مشافه بالخطاب ولكنه مقصود بالتفهيم كما هو الحال في الكتب والمؤلفات.
وحاصل الدليل لهذا التفصيل هو أنَّ المقصود بالإفهام لا يحتمل إرادة خلاف ظاهر كلام المتكلم إلا من ناحية الغفلة والإحتمال منحصر بذلك إما غفلة المتكلم عن نصبه القرينة على إرادة خلاف الظاهر أو غفلة المقصود بالإفهام عن الإلتفات الى القرينة التي نصبها المتكلم ، وليس هناك سبب آخر لإحتمال إرادة خلاف ظاهر الكلام ، ولا شك في جريان أصالة عدم الغفلة عند إحتمالها في المتكلم وفي المقصود بالإفهام وهو أصل عقلائي مبني على الكاشفية وبذلك يكون الظهور حجة ويتعين أن يكون مراد المتكلم ما هو ظاهر كلامه.
وهذا إنما يتم في المقصودين بالإفهام وأما في غيرهم فإحتمال إرادة خلاف الظاهر لا ينحصر سببه بإحتمال الغفلة حتى يقال أنها منفية بالأصل ونحرز بذلك إرادة ما هو ظاهر الكلام بل يُحتمل إرادة المتكلم خلاف ظاهر الكلام ولعله نصب قرينة متفق عليها بينه وبين المقصودين بالإفهام وقد فهموا مراده إستناداً الى القرينة المتفق عليها ، وأما غير المقصودين بالإفهام فلا يمكنهم إثبات ظاهر الكلام لإحتمال وجود قرينة على إرادة خلاف الظاهر ولم تصل إليهم.
وإعترض عليه السد الخوئي قده بأنه لا ربط بين أصالة الظهور وأصالة عدم الغفلة بل هما أصالان مستقلان ولكل منهما منشؤه الخاص ، فأصالة عدم الغفلة منشؤها أنّ الغفلة خلاف الطبع وأصالة الظهور منشؤها كاشفية الكلام عن المراد الواقعي للمتكلم ، ثم ذكر أنَّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه فأصالة عدم الغفلة تفترق عن أصالة الظهور في فعل البالغ مع إحتمال الغفلة فلا تجري أصالة الظهور لكونه فعلاً مع جريان أصالة عدم الغفلة فيه ، وتفترق أصالة الظهور عن أصالة عدم الغفلة في كلام المعصومين عليهم السلام إذ لا يُحتمل فيهم الغفلة مع جريان أصالة الظهور في كلامهم المنقول إلينا ، ويجتمعان في كلام العرف مع إحتمال الغفلة فتجريان فيه معاً ، وهذا شاهد على تغاير الأصلين.
ثم يقول في مقام الإعراض بأنَّ أصالة الظهور لا يُفرق فيها بين المقصودين بالإفهام وبين غير المقصودين بالإفهام وجرت السيرة على التمسك بظاهر الكلام حتى في غير المقصودين بالإفهام ولذا يتمسكون بظاهر الأقارير والاعترافات المكتوبة في الوصية ونحوها مع أنَّ الكاتب قد لا يقصد إفهام كل من وصل إليه المكتوب ، فحجية الظهور لا يُفرق فيها بين المقصودين بالإفهام وبين غيرهم.
وهذا الإعتراض يكاد يكون صريحاً في أنَّ أصالة الظهور تجري إذا إحتملنا إرادة خلاف الظاهر من غير جهة إحتمال الغفلة كما إذا شككنا في القرينة المتصلة مع إحراز عدم الغفلة أي نحمل إرادة خلاف ظاهر الكلام من غير جهة الغفلة فهنا نتمسك بأصالة الظهور ، والسؤال هل التمسك بأصالة الظهور يتوقف على إجراء أصالة عدم القرينة في مرتبة سابقة أم لا ؟ وعلى فرض التوقف نسأل إنَّ هذا الأصل هل له حيثيات كشف حتى يبني العقلاء على العمل به أو ليس له ذلك ؟
قد تقدم أنه ليس هناك حيثيات كشف في أصالة عدم القرينة المتصلة من غير ناحية الغفلة وإنما تكون الكاشفية لهذا الأصل بلحاظ الظهور وغلبة مطابقته للواقع وفي مرتبة متأخرة عن الظهور ، لأنَّ الظهور هو الذي يوجب أرجحية إحتمال عدم القرينة بالنسبة الى إحتمال القرينة فلا معنى لافتراض الكاشفية في مرحلة سابقة على الظهور بحيث يُراد إثبات الظهور إستناداً إليها والحال أنها مستندة الى الظهور ، ولذا يتساوى إحتمال عدم القرينة مع إحتمال القرينة في هذا الأصل ، نعم قد يُدعى أنه أصل تعبدي صرف إلا أنَّ مبنى العقلاء ليس على ذلك والمفروض أنهم يبنون عليه بإعتبار الكاشفية ومن دونها لا بناء للعقلاء على العمل بهذا الأصل.
وأما إذا فرضنا أنَّ الرجوع الى أصالة الظهور لا يتوقف على إجراء أصالة عدم القرينة فهذا يعني الرجوع الى القول الثاني وهو ما يراه المحقق الأصفهاني قده وهذا ما لا يقبله السيد الخوئي قده لأنه تبنى ما ذهب إليه استاذه المحقق النائيني قده وهو الإلتزام بالقول الأول وأنَّ موضوع الحجية هو الظهور التصديقي الذي لا يكفي فيه عدم العلم بالقرينة المتصلة ولابد فيه من إثبات عدم القرينة المتصلة ولو بالأصل.
والحاصل: انَّ أصالة الظهور ليست أصلاً تعبدياً بحسب الفرض وأنَّ موضوعها هو الظهور التصديقي وإحرازه يتوقف على إحراز عدم القرينة بالأصل مع الشك ، وأصالة عدم القرينة إن كانت من جهة إحتمال الغفلة كما في المقصود بالإفهام كانت جارية بلا إشكال لما عرفت سابقاً من أنه أصل له الكاشفية وصح له التمسك بالظهور ، وأما إن كانت من غير جهة الغفلة كما في غير المقصود بالإفهام فلا وجه لجريانها إذ لا كاشفية لها حينئذٍ ومعه لا يصح التمسك بالظهور لعدم إحراز موضوعه -وهو الظهور الصديقي - فلابد من نفي القرينة المتصلة الناشئ من غير الغفلة ولا نافي له ، نعم إذا إلتزمنا بالتعبد في أصالة عدم القرينة أو إلتزمنا بما يقوله المحقق الأصفهاني قده من كفاية عدم العلم بالقرينة المتصلة المحرز بالوجدان صح ذلك لكنه مما لا يبني عليه السيد الخوئي قده.
هذا كله هو التقريب الأول للإستدلال على التفصيل الذي ذهب إليه المحقق القمي قده ، ويمكن أن يُقرب هذا التفصيل بتقريب آخر لا يرد عليه إعتراض السيد الخوئي.
التقريب الثاني: إنَّ الأساس في حجية الظواهر كما تقدم هو الفرار من محذور لزوم الخلف وذلك باعتبار أنَّ المتكلم إذا أراد خلاف الظاهر وهو في مقام البيان ولم ينصب عليه قرينة معلومة فيكون ذلك خلف فرض كونه في مقام التفهيم ، فإذا لم ينصب قرينة فنقول أنَّ مراده هو ظاهر كلامه.
وهذا التقريب يثبت حجية الظواهر ولكن بالنسبة الى المقصود بالإفهام فقط لأنَّ لزوم الخلف يثبت بلحاظه والمتكلم ملزم بتفهيمه مراده له دون غيره ، فلو فرض أنّ المتكلم نصب قرينة وأوصلها الى المقصود بالإفهام ولم تصل الى غيره فلا يمكن لغير المقصود بالإفهام التمسك بظاهر كلام المتكلم إذ لا يلزم الخلف من إرادة غير الظاهر وعدم وصول القرينة إليه ، وبالتالي لا يكون الظهور حجة بالنسبة الى غير المقصود بالإفهام.
والحاصل: لا محذور في إفتراض إرادة المتكلم خلاف الظاهر مع نصبه قرينة لا يعرفها إلا المقصود بالإفهام لأنَّ إيصال القرينة لا يجب عليه إلا بالنسبة الى من قصد إفهامه دون من لم يُقصد ، فلعله أوصل القرينة الى الأول ولم يطلع عليها الثاني ، فلا يمكن للثاني أن يتمسك بظهور الكلام لتعيين مراد المتكلم ، وهذا لا يرد عليه الإعتراض المتقدم لأنَّ هذا الوجه مرجعه الى دلالة عقلية لا الى الظهور فلابد أن يكون مراده هو ظاهر كلامه بالنسبة الى المقصود بالإفهام وإلا لزم الخلف.
هذان تقريبان للتفصيل الذي ذكره المحقق القمي قده بين المقصودين بالإفهام وبين غيرهم.
ويلاحظ على التقريب الأول أنه إدعي أنّ المقصودين بالإفهام ينحصر إحتمال إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليهم في إحتمال الغفلة إما غفلة المتكلم أو غفلة السامع ، والكلام في دعوى الإنحصار إذ يُحتمل حتى في المقصودين بالإفهام عدم وصول القرينة لا من جهة الغفلة فيمكن فرض إحراز عدم غفلة المتكلم وسامع ومع ذلك نحتمل إرادة خلاف الظاهر لإحتمال وجود قرينة إعتمد عليها المتكلم ولم تصل الى المقصودين بالإفهام ، خصوصاً إذا كان المقصودون بالإفهام قطاع واسع من الناس وفي أزمنة متعددة فيحتمل عدم وصول القرينة لهم مع نصبها من قبل المتكلم.
وبعبارة أخرى إنّ المتكلم ملزم بنصب القرينة إذا أراد خلاف الظاهر وقد نصب القرينة على مراده ووصلت الى بعض المقصودين بالإفهام ، ولكنه ليس ملزماً بإيصال القرينة الى كل مقصود بالإفهام ولو كان متأخراً بزمان طويل عن زمان المتكلم وإنما هو ملزم بجعل القرينة في معرض الوصول وهذا لا يلزم منه أن تصل الى جميع المقصودين بالإفهام ، فالمتأخرون عن زمان المتكلم يحتملون إرادة خلاف الظاهر لا من جهة إحتمال الغفلة وذلك كما لو قصد إفهام جماعة من الناس بخطاب أو كتاب وقد وصل الى بعضهم وإحتمال آخرون سقوط القرينة في أثناء نقل الكتب.
وأما التقريب الثاني فذكرت ملاحظات عليه:
الملاحظة الأولى: إنَّ الدلالة بناءً على هذا التقريب أشبه بالدلالة العقلية فتكون قطعية ويكون الظهور دالاً على مراد المتكلم قطعاً وإلا لزم الخلف ، لكنه ليس محل الكلام بل الكلام في الدلالة الظنية الاستظهارية ولذا إحتجنا الى الإستدلال على حجية الظهور بالتمسك بالسيرة ، فالكلام في الدلالة العقلية خلاف مبنى هذا الكلام.