الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / التفصيل في حجة الظهور

الكلام في النسبة بين أصالة الظهور وبين بقية الأصول اللفظية وذكرنا أنه ينبغي التمييز بين نوعين من الأصول أصول تجري لتشخيص المراد الإستعمالي للمتكلم وأصول تجري لتشخيص المراد الجدي للمتكلم ، نعم قد تتوقف الأصول من النوع الثاني على الأصول من النوع الأول لأنّ إثبات المراد الجدي يتوقف على تشخيص المراد الإستعمالي في كثير من الأحيان ، فيقال هذا المراد الإستعمالي الذي قَصدَ المتكلم إخطاره في الذهن هو مراد له جداً ، وإرادته المعنى التصوري جداً تثبت بأصول من قبيل أصالة العموم وأصالة الإطلاق ، وأما المراد الإستعمالي للمتكلم فيُشخص بأصول من القسم الأول من قبيل أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة ، ولا نُشخص المراد الجدي للمتكم بأصالة عدم القرينة وإلا لما إحتجنا الى أصالة الظهور فإنما يتنقح بأصالة عدم القرينة موضوع أصالة الظهور لإثبات المراد الجدي للمتكلم وهذا يعني أنّ أصالة عدم القرينة نُشخص بها المراد الإستعمالي.

فهناك نوعان من الأصول وكلها تندرج تحت أصالة الظهور ولكن مع إختلاف المراتب ، فالأصول من القسم الأول مرجعها بالتحليل الى أصالة التطابق بين الظهور الوضعي وبين المراد الإستعمالي ، فالأصل عندما يستعمل المتكلم اللفظ هو أنه يريد إخطار المعنى الموضوع له في ذهن السامع فيكون المعنى الوضعي مراداً للمتكلم إستعمالاً وهذا نوع من أنواع الظهور ، فإذا قال: ( رأيتُ أسداً ) فأصالة التطابق تقول أنَّ المعنى الموضوع له لفظ الأسد هو الذي إستعمل اللفظ فيه ولو إستعمله المتكلم في معنى آخر لنصب عليه قرينة دالة عليه ، فهذه الأصول تجري لتشخيص المراد الإستعمالي ويُعبر عنها بإصالة التطابق بين المعنى الموضوع له اللفظ وبين المعنى الإستعمالي.

والقسم الثاني من الأصول هي التي تُشخص المراد الجدي للمتكلم وهي نوع آخر من أنواع الظهور كأصالة العموم وأصالة الإطلاق التي تجري لإثبات أنَّ العموم أو الإطلاق مراد جدي للمتكلم ، فإذا إستعمل المتكلم ( كل ) وشككنا في مراده الجدي هل هو العموم أو الخصوص فيقال أنَّ مقتضى التطابق بين الإرادة الإستعمالية وبين الإرادة الجدية هو أنَّ العموم مراد له جداً ، فأصالة الظهور معنى يشمل كل الأصول اللفظية لكن مع إختلاف المراتب.

ويمكن التأمل في محاولتي الشيخ الأنصاري والمحقق الخراساني باعتبار أنَّ كُلاً من الأصلين له وظيفة تغاير الأخرى فإذا جعلنا أصالة الظهور في قبال أصالة عدم القرينة كما هو المفروض فوظيفة أصالة عدم القرينة هي تشخيص المراد الإستعمالي ووظيفة أصالة الظهور تشخيص المراد الجدي وإذا تعددت الوظيفة فلا معنى لإرجاع إحداهما الى الأخرى كما لا يستغنى بإحداهما عن الأخرى.

والحاصل : إنَّ بعض هذه الأصول تجري عند الشك في إرادة المعنى الموضوع له اللفظ إرادة إستعمالية أي أنَّ القائل ( رأيتُ أسداً ) هل إستعمل اللفظ في معناه الحقيقي أو أنّه إستعمله في معنى آخر وهنا تجري أصالة الحقيقة لتشخيص إرادة المعنى الحقيقي إرادة إستعمالية ، وكذا تجري أصالة عدم القرينة لتشخيص ذلك ، كما أنَّ بعض هذه الأصول تجري عند الشك في المراد الجدي للمتكلم مثل أصالة الظهور والعموم والإطلاق فإنها ناظرة الى المراد الجدي .

التفصيل في حجية الظهور

ذُكر تفصيلان معروفان في حجية الظهور التفصيل الأول بلحاظ المكلف نفسه والتفصيل الثاني بلحاظ نفس الظهور:

أما التفصيل الأول فهو التفصيل المعروف الذي ذهب إليه المحقق القمي في القوانين وهو التفصيل بين من قُصِد إفهامه وبين من لم يُقصد إفهامه ، فيكون الظهور حجة في حق من قُصد بالتفهيم ولا يكون حجة في حق من لم يُقصد بالتفهيم، فإذا فرضنا أنّ المتكلم قَصد إفهام جماعة فيكون الظهور حجة لهم وعليهم ولكنه لا يكون حجة بالنسبة الى إشخاص آخرين لم يقصدوا بالتفهيم بهذا الكلام.

و أما التفصيل الثاني أي التفصيل بحسب الظهور وهو الذي ذهب إليه بعض علمائنا المتقدمين من التفصيل بين ظواهر الكتاب وظواهر غير الكتاب وإدعى أنَّ الحجية ثابتة لظواهر غير الكتاب وأما ظواهر الكتاب فليست حجة.

أما التفصيل الأول فقد إستدل عليه المحقق القمي بأنَّ المتكلم إذا كان في مقام تفهيم المخاطب لما يريده فهو ملزم بأن يلقي الكلام بنحو لا يقع المخاطب في توهم إرادة خلاف ما يريده ، ولو فرضنا أنَّ المخاطب فَهِم غير ما يريده المتكلم فلابد أن يكون هذا ناشئاً إما من غفلة المخاطَب عن الكلام والخصوصيات الموجودة فيه وإما من غفلة المتكلم عن بيان ما يريده بالنحو الكافي ، فإذا قلنا أنَّ الغفلة خلاف الأصل فيتعين أن يكون ما فهمه المخاطَب من الكلام هو ما يريده المتكلم ، وإذا ثبت ذلك فحينئذٍ يكون حجة بالنسبة الى المخاطَب لأنَّ إحتمال إرادة المتكلم خلاف المعنى الذي فهمه المخاطَب لا يخلو إما أن ينشأ من غلفة من قبل المتكلم أو غفلة من قِبل المخاطَب وكل منهما منفي بالأصل ، فيتعين أن يكون ما فهمه المخاطب هو مراد المتكلم فيكون حجة ، وهذا الكلام إنما يتم إذا كان المخاطب مقصوداً بالإفهام.

وأما غير المقصود بالإفهام فإرادة خلاف الظاهر لا تنحصر في هذين الاحتمالين فقد يكون المتكلم أراد خلاف الظاهر وذكرَ قرينة على ذلك لكنها مختصة بينه وبين المقصودين بالتفهيم كالإشارة وحركة اليد والإعراض بالوجه ونحو ذلك وقد أوصل مراده للمخاطبين من خلالها ، ولكن هذه القرينة مفقودة بالنسبة الى غير المخاطبين وليس المتكلم ملزماً بأن يُبين لهم مراده ، فيحتمل في غير المقصود بالتفهيم أنَّ المتكلم يريد خلاف ظاهر كلامه لإحتمال وجود قرينة على خلاف الظاهر بينه وبين المقصودين بالإفهام ، فلا يكون هذا الظهور حجة بالنسبة الى غير المقصودين بالإفهام ويكون حجة بالنسبة الى المقصودين بالإفهام.

والحاصل: أنَّ المتكلم إذا كان في مقام البيان إنما يجب عليه إيصال القرينة إذا أراد خلاف الظاهر الى من قُصد إفهامه دون من لم يُقصد إذ يُحتمل أنه أوصل القرينة الى المقصودين بالإفهام ولم يطلع عليها غير المقصود بالإفهام ، والمقصود بالإفهام لا يكون إحتماله وجود القرينة إلا من جهة إحتمال غفلته هو أو غفلة التكلم عنها فيُرجع الى أصالة عدم الغفلة ، وأما غير المقصود بالإفهام فلا ينحصر إحتمال القرينة بإحتمال الغفلة بل بإحتمال نصبه قرينة على إرادة خلاف الظاهر خاصة بمن قُصد بالتفهيم كالإشارة وأمثالها.

هذا خلاصة ما ذهب إليه المحقق القمي في القوانين.

ونوقش هذا الكلام من المتأخرين عنه وإعترض عليه بأنَّ هناك أصالتان أصالة الظهور وأصالة عدم الغفلة والمدعى أنَّ كُلاً منهما أصل مستقل ولهما ملاكاتهما المختلفة ، فأصالة عدم الغفلة تنشأ من كون الغفلة خلاف الطبع والعادة ، وأصالة الظهور تنشأ من كاشفية الظهور عن مراد المتكلم ، ويدعى أنَّ النسبة بينهما هي العموم من وجه لأنَّ أصالة الظهور تفترق عن أصالة عدم الغفلة في الكلام الصادر من المعصوم عليه السلام إذ لا يُحتمل فيه الغفلة ، وتفترق أصالة عدم الغفلة عن أصالة الظهور في فعل العاقل البالغ إذا إحتمل صدوره منه غفلة ، وتجتمعان في الكلام الصادر من العاقل إذا إحتمل صدوره عن غفلة.

فحاصل الإعتراض أنَّ أصالة الظهور أصل مستقل ليس له علاقة بأصالة عدم الغفلة وله ملاكاته الخاصة والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، ولا يُفرق في أصالة الظهور بين من قُصد بالتفهيم وبين من لم يقصد بالتفهيم.