الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/07/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الظواهر/ تحديد موضوع حجية الظهور

ذكرنا أنه إذا شُك في القرينة المتصلة ولم نُحرز عدمها فلا يمكن التمسك بالظهور لأنَّ موضوع حجية هو الظهور التصديقي ولا ينعقد إلا مع عدم القرينة المتصلة فلابد من إحرازه لإحراز موضوع الحجية ، وإحراز عدم القرينة يتم بأصالة عدم القرينة المتصلة والكلام في أنّ هذا الأصل هل يجري مطلقاً أم هناك تفصيل في جريانه ؟

قد يقال في مقام التفصيل إنّ إحتمال القرينة المتصلة الذي يراد نفيه تارة يكون ناشئاً من إحتمال غفلة السامع عن الإلتفات الى القرائن المتصلة وأخرى يكون ناشئاً من أسباب أخرى ، وأصالة عدم القرينة المتصلة تجري في الأول بلا إشكال ويثبت الظهور التصديقي ، وأما إذا إحتملنا نشوء إحتمال القرينة المتصلة من أسباب أخرى غير الغفلة كما في المثال المتقدم وكما إذا كان السامع ثقيل السمع فيحتمل عدم سماع قرينة متصلة قالها المتكلم فلا وضوح في وجود بناء من قِبل العقلاء على جريان أصالة عدم القرينة المتصلة في هذه الموارد وذلك لأنَّ التمسك بهذا الأصل في فرض إحتمال غفلة السامع في واقعه هو التمسك بأصالة عدم الغفلة وهو أصل عقلائي له كاشفية وهو معتبر من قبل العقلاء بلا كلام بخلاف ما إذا كان إحتمال القرينة ناشئاً من أسباب أخرى فلا توجد كاشفية ترجح إحتمال عدم القرينة المتصلة على إحتمال وجودها ومع تساوي الاحتمالان وعدم الكاشفية نتوقف ونقول لا يمكن إجراء أصالة عدم القرينة المتصلة وبالتالي لا نحرز تحقق موضوع الحجية ومن ثَم لا يمكن التمسك بأصالة الظهور.

وقلنا أنَّ هذا التفصيل يوجب طرح إشكال آخر مهم جداً فقد يقال بناءً على هذا التفصيل أنه يؤدي الى عدم إمكان التمسك بالظهور في الروايات الواصلة الينا فلا يكون ظهورها حجة لأنَّ موضوع الحجية بحسب الفرض هو الظهور التصديقي وهو يتوقف على إجراء أصالة عدم القرينة المتصلة فإذا كان إحتمال القرينة المتصلة ليس ناشئاً من غفلة السامع كما هو كذلك في الروايات المنقولة لنا ومثلنا له بتقطيع الروايات فلا يمكن نفي هذا الإحتمال بأصالة عدم القرينة المتصلة فينبغي التوقف عن الأخذ بظهور هذه الروايات بحسب التفصيل المتقدم ، وهذا إشكال عظيم لابد من الجواب عنه.

أما بلحاظ العمل الخارجي فالمعروف عن الفقهاء أنهم يعملون بهذا الظهور نعم قد يكون ذلك لعدم إحتمال القرينة المتصلة في أكثر الموارد إلا أنه في بعضها يحتملون القرينة المتصلة وبالرغم منه يعملون بهذا الظهور ، فكيف يمكن العمل بهذه الظهورات مع إحتمال القرينة المتصلة ؟

قد يقال في مقام الجواب أنّ إحتمال القرينة المتصلة في الروايات الواصلة إلينا والتي تنقل كلام المعصومين عليهم السلام تارة يكون منشؤه هو إحتمال غفلة السامع عن القرينة المتصلة وهنا تجري أصالة عدم القرينة المتصلة بلا إشكال ، وأخرى يكون منشؤه هو أنَّ الناقل نفسه تعمد أسقاط هذه القرينة وهذا الإحتمال منفي بشهادة الناقل أنه ينقل لنا كل ما يكون دخيلاً في فهم المراد ، فالناقل له شهادتان شهادة إيجابية وهي أنَّ الإمام قال كذا وشهادة سلبية مفادها أنّ الإمام لم يقل غير هذا الكلام مما له دخل في فهم المراد ، وبهذه الشهادة السلبية ننفي إحتمال وجود القرينة المتصلة ، والناقل باعتبار وثاقته يكون ملتزماً بنقل كل ما يكون دخيلاً في فهم المراد وفرض إسقاطها من قبل نفس الناقل خلاف أمانة النقل فبنقله الكلام مع عدم نقل القرينة تكون شهادة منه بعدم وجود القرينة ، فإحتمال أنَّ الناقل سمعها ولم ينقلها منفي بشهادته وأمانته ووثاقته.

وثالثة يكون منشؤه أنَّ الناقل لم ينقل القرينة باعتبار عدم نظره الى هذه القرينة ، وهذا إذا كانت القرينة المتصلة لُبية إرتكازية ، فإنما يلتزم الناقل بنقل القرائن اللفظية ولا يرى نفسه ملزماً بنقل القرائن المتصلة اللبية ، فإذا إحتملنا في رواية ما وجود قرينة إرتكازية تكتنف الكلام وتكون قرينة على إرادة خلاف ظاهره فكيف يمكن نفيها مع عدم إمكان التمسك بأصالة عدم الغفلة لأنّ الإحتمال لم ينشأ من الغفلة ، كما لا يمكن التسمك بشهادة الناقل وأمانته لنفي هذا الإحتمال لأن شهادته وأمانته تضمن لنا نقل القرائن اللفظية مضافاً الى أنَّ العقلاء يرون أنه ملزم بذلك ، وأما القرائن التي لا يرى الناقل نفسه أنه ملزم بنقلها ولا يرى العقلاء ذلك فلا معنى لنفي هذا الاحتمال بشهادة الناقل وأمانته ، أو قل ليس من مقتضى أمانة الناقل أن ينقل لنا حتى القرائن الإرتكازية ولا يكون لو ترك نقلها قد خالف الأمانة.

ومن هنا قد يقال لا مجال لنفي هذا الإحتمال وهذا يعني لزوم التوقف في الظهورات من هذا القبيل فلا يمكن التمسك بأصالة الظهور لعدم إحراز موضوعها.

أحسن ما يُدفع به هذا الإشكال وإمكان التمسك بظهور هذه الروايات حتى مع إحتمال القرينة المتصلة من جهة إحتمال وجود قرائن إرتكازية لُبية تكتنف الكلام هو بالإلتزام بما ذهب إليه المحقق الأصفهاني قده من أنَّ موضوع الحجية هو الظهور التصوري الوضعي وهذا يدفع الإشكال من الأساس إذا لا نحتاج بحسب هذا الإحتمال الى إجراء أي أصل - لا عدم القرينة المتصلة ولا عدم القرينة المنفصلة - ويكون موضوع الحجية محرز بالوجدان بجزأيه ويمكن حينئذٍ التمسك بأصالة الظهور بلا إشكال ، فهل يمكن ترجيحه على الإحتمالات الأخرى ؟

قد يقال في مقام ترجيح الإحتمال الثاني أنَّ هناك أصل في مقام المحاورة يبني عليه العقلاء وهو أنَّ المتكلم إذا أراد تفهيم معنى معين غير المعنى الموضوع له اللفظ فعليه أن ينصب قرينة تدل على ذلك المعنى المراد ، والعقلاء يُلزمون كل متكلم بذلك ، فإذا تكلم بكلام ولم يأتِ بما يدل على إرادة خلاف المعنى الموضوع له اللفظ فهنا يستقر بناء العقلاء على أنَّ ما يريده المتكلم هو المعنى الموضوع له اللفظ ، وهذا ما يُعبر عنه بأصالة التطابق بين الظهورات الثلاثة الظهور التصوري والظهور التصديقي من الدرجة الأولى والظهور التصديقي من الدرجة الثانية ، ولا نرفع اليد عن هذا الأصل إلا بدليل دال على أنَّ مراد المتكلم هو شيء آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ وعندئذٍ لا يكون هناك تطابق بين الظهور التصوري والظهور التصديقي فالأول منعقد على طبق المعنى الموضوع له اللفظ والثاني منعقد على طبق القرينة التي جاء بها المتكلم ، فإذا لم يُبين أنه يريد خلاف هذا المعنى فبناء العقلاء على أنَّ مراده هو المعنى الموضوع له اللفظ.

فكانَّ المدعى هو أننا إذا لم نعثر على ما يدل على إرادة خلاف المعنى الموضوع له اللفظ فأصالة التطابق بين الظهورات الثلاثة تجري وأنَّ مراد المتكلم جداً وواقعاً هو المعنى الموضوع له اللفظ ، فهذه قاعدة نتمسك بها في كل مورد لا نعثر فيه على قرينة على إرادة خلاف المعنى الموضوع له اللفظ.

وبعبارة أوضح إذا لم نعلم بالقرينة المتصلة فالقاعدة هي البناء على التطابق بين الظهور التصوري والظهور التصديقي ويكون مراد المتكلم هو المعنى الموضوع له اللفظ وهذا يؤدي الى الإحتمال الثاني الذي ذهب إليه المحقق الأصفهاني قده وأن موضوع الحجية هو الظهور التصوري وهو لا يتوقف إلا على عدم العلم بالقرينة المتصلة وكل منهما محرز بالوجدان بلا حاجة الى إجراء أصل من الأصول ، فإذا أمكن الإلتزام بذلك فحينئذٍ يندفع الإشكال حتى مع إحتمال القرينة الإرتكازية اللبية.