43/07/17
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / تحديد موضوع حجية الظهور
كان دليل المحقق الأصفهاني قده على أنَّ الجزء الأول من موضوع الحجية هو الظهور التصوري هو أنه لو كان الموضوع هو الظهور التصديقي فهذا يستلزم عدم إمكان إحرازه في حال الشك فيه ، فإن قيل يمكن إحرازه بواسطة إجراء أصالة عدم القرينة المتصلة فإذا أحرزنا عدمها أحرزنا بذلك الظهور التصديقي.
فجوابه أنَّ أصالة عدم القرينة المتصلة لا تجري في المقام لأنها من باب أصالة عدم المانع لأنَّ القرينة مانع يمنع من إنعقاد الظهور، وأصالة عدم المانع لا تجري إلا عند إحراز وجود المقتضي ، والمقتضي هو عبارة عن الظهور التصديقي ، نعم لو أحرزنا المقتضي في مورد آخر وشككنا في المانع فلا إشكال في الرجوع الى أصالة عدم المانع ، فلابد أن لا يكون الظهور التصديقي هو موضوع الحجية ويتعين أن يكون موضوعها هو الظهور التصوري الوضعي الذي لا شك فيه ولا نحتاج لإحرازه الى إجراء أصالة عدم القرينة المتصلة ، فيكون موضوع الحجية هو الظهور التصوري الوضعي مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة وكُلٌ منهما محرز بالوجدان فنُحرز بذلك موضوع الحجية فتثبت الحجية لهذا الظهور.
ويلاحظ عليه: أنَّ أصالة عدم القرينة المتصلة ليس من باب أصالة عدم المانع فإنَّ العقلاء يُفرقون بينها وبين أصالة عدم المانع مما يكشف عن المغايرة بينهما ، والعقلاء لا يبنون على أصالة عدم المانع ولعل السر فيه هو أنه لا الكاشفية في هذا الأصل فعند إحراز وجود المقتضي والشك وجود ما يمنع من تأثير المقتضِي في المقتضَى لا توجد كاشفية توجب ترجيح إحتمال عدم وجود المانع على إحتمال وجوده بل هما متكافئان ، ولذا نمنع من دعوى بناء العقلاء على أصل يسمى أصالة عدم المانع ، وهذا بخلاف أصالة عدم القرينة المتصلة التي تدخل في باب أصالة عدم الغفلة لأنَّ منشأ إحتمال القرينة المتصلة عند الشك فيها عادة يكون هو غفلة السامع عن الإلتفات إليها وقد جاء بها المتكلم لإثبات أنه يريد خلاف الظاهر ، فأصالة عدم القرينة تعبير آخر عن أصالة عدم الغفلة ، ولا إشكال في أنَّ أصالة عدم الغفلة أصل عقلائي يبني عليه العقلاء ويشتمل على الكاشفية باعتبار أنَّ الغفلة حالة نادرة وأسباب عدم الغفلة أكثر بكثير إذا قورنت بأسباب الغفلة فإنَّ السامع متوجه الى الكلام بحسب الفرض وإفتراض غفلته عن قرينة ألحقها المتكلم بكلامه خلاف الظاهر ، ومن هنا يكون إحتمال عدم الغفلة أرجح من إحتمال الغفلة وهو يعني أنَّ إحتمال عدم القرينة المتصلة أرجح من إحتمال وجودها لأنَّ وجودها يعني غفلة السامع عنها وهو مرجوح في قبال إحتمال عدم الغفلة ، وعلى هذا لا موجب لإرجاع أصالة عدم القرينة الى أصالة عدم المانع والإلتزام بأنَّ موضوع الحجية هو الظهور التصديقي لا يؤدي الى عدم إمكان إحرازه عند الشك فيه كما ذكر.
وإلى هنا يثبت أنه لا مانع من أن يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي لكن هذا على مستوى الإمكان وأما على مستوى الواقع ومقام الإثبات فلابد من إستئناف بحث لإثبات الصحيح من هذين المحتملين.
والصحيح أنَّ موضوع الحجية هو الظهور التصديقي والسبب فيه هو أنَّ الظهور التصوري أمر تكويني وضعي والعقلاء إنما يبنون على حجية شيء إذا كان كاشفاً عن الواقع لأنه هو الذي يكون منجزاً ومعذراً ، والظهور الكاشف عن مراد المولى هو الظهور التصديقي وأما الظهور التصوري فمعلول للوضع وليس فيه كاشفية عن مراد المتكلم وغايته أنه يقع في مقدمات حصول الظهور التصديقي ، بمعنى أنه إذا كان الكلام موضوعاً لمعنى فالأصل أنه هو مراد المتكلم عندما لا ينصب قرينة على إرادة الخلاف ، ولكن لا بمعنى أنَّ الظهور التصوري الوضعي هو الذي يكشف عن المراد المتكلم بل الذي يكشف عن مراده هو الظهور التصديقي وهو ظهور الكلام في أنَّ المتكلم يريد إخطار هذا المعنى في ذهن السامع - وهي الدلالة التصديقية من الدرجة الأولى - وأنه يريده جداً وواقعاً - وهي الدلالة التصديقية من الدرجة الثانية - فيثبت بذلك أنَّ المتكلم يريد ما يكون الكلام ظاهراً فيه جداً ، وهذا هو الذي يقع بنظر العقلاء موضوعاً لحكم العقل بحسن الإطاعة وقبح المعصية وهو الذي تترتب عليه الآثار من التنجيز والتعذير.
ومنه يتضح أنَّ الإحتمال الأول من الإحتمالات الثلاثة صحيح بلحاظ الجزء الأول من موضوع الحجية وهو الظهور التصديقي ولكنه ليس صحيحاً بلحاظ الجزء الثاني من الموضوع وهو عدم القرينة المنفصلة واقعاً وتقدمت مناقشته ، وإنما الجزء الثاني هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة وهو محرز بالوجدان ، ومن هنا يتبين أنَّ الصحيح من الإحتمالات الثلاثة هو الإحتمال الثالث لا الإحتمال الأول بلحاظ الجزء الثاني من الموضوع ولا الإحتمال الثاني بلحاظ الجزء الأول من الموضوع.
الى هنا يتبين أنه مع إحراز عدم القرينة المتصلة والشك في القرينة المنفصلة فبناءً على الإحتمال الصحيح يمكن الرجوع الى أصالة الظهور مباشرة بلا حاجة الى إجراء أصل ، أما بالنسبة الى القرينة المتصلة فلأننا أحرزنا عدمها والشك في المنفصلة لا يمنع من الرجوع الى أصالة الظهور لأنَّ موضوع أصالة الظهور هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة وهو محرز بنفس إفتراض الشك فيها.
وأما إذا فرضنا الشك في القرينة المتصلة فلا يمكن الرجوع الى أصالة الظهور مباشرة لعدم إحراز الظهور التصديقي وهو الجزء الأول من موضوع الحجية ، فلابد من إجراء أصالة عدم القرينة المتصلة وبه نحرز الظهور التصديقي ، والجزء الثاني محرز بالوجدان فيتنقح موضوع الحجية ويبنى على حجية ذلك الظهور.
والكلام يقع في إمكان التعويل على أصالة عدم القرينة المتصلة لإثبات الظهور التصديقي أو عدم امكانه ، وبعبارة أخرى إنّ أصالة عدم القرينة المتصلة هل هي من الأصول العقلائية التي يبني عليها العقلاء عند الشك في القرينة المتصلة فحالها حال أصالة عدم القرينة المنفصلة في مورد جريانها أم لا ؟
المعروف بينهم التفصيل بين ما إذا كان إحتمال القرينة المتصلة ناشئاً من إحتمال غفلة السامع عن الإلتفات اليها وبين ما إذا كان إحتمال القرينة المتصلة ناشئاً من شيء آخر غير الغفلة كما لو فرض إلتفات السامع مع إحتمال القرينة المتصلة كما لو فرضنا عدم كون الشخص مشافه بالخطاب كما لو وصله الخطاب برسالة فيها جزء ممزق ويحتمل المخاطَب أنَّ فيها قرينة متصلة مفقودة فإحتمال القرينة المتصلة ليس ناشئاً من غفلة الشخص الذي يريد التمسك بهذا الظهور قطعاً ، فتجري أصالة عدم القرينة المتصلة في الأول لوجود بناء من قبل العقلاء على إلغاء احتمال وجود القرينة المتصلة دون الثاني إذ لا يوجد أصل يبني عليه العقلاء يسمى أصالة عدم القرينة المتصلة.
ولعل السر فيه هو أنه في الحالة الأولى توجد فيها كاشفية بخلاف الحالة الثانية ، وذلك لأنّ إحتمال عدم الغفلة أرجح نوعاً وبنظر العقلاء من إحتمال الغفلة فإنّ الغفلة حالة طارئة وخلاف الأصل فإنّ إفتراض توجه السامع الى الخطاب مع إحتمال غفلته عن ما ينصبه المتكلم من قرينة على إرادة خلاف ظاهر الخطاب أضعف من إحتمال عدم الغفلة فيكون عدم الغفلة أرجح وهذا يعني وجود الكاشفية في أصالة عدم الغفلة في القسم الأول ، وأما القسم الثاني فليس هناك كاشفية ولا أرجحية فلا يبني العقلاء على أصالة عدم القرينة المتصلة ، هذا هو المعروف.
ومن هنا ينشأ إشكال مهم وهو أنَّ هذا التفصيل يوجب إنسداد باب العمل بظواهر كلام المعصومين عليهم السلام علينا وذلك لأننا نحتمل دائماً وجود قرائن متصلة لم تصل إلينا ، وبعبارة أخرى أنَّ الكلام الواصل إلينا عندما نحتمل وجود قرينة متصلة فهذا الإحتمال لم ينشأ من إحتمال غفلة السامع عن الإلتفات الى وجود قرينة متصلة وإنما نشأ عادة من إحتمال أن تكون هناك قرينة متصلة بالكلام لكنها لم تصل إلينا للأسباب المعروفة لعدم وصول أكثر الروايات إلينا ، ولعل منها التقطيع الذي أحدثه المتقدمون للروايات وألحقوا كل قسم بالباب المناسب له ، فيحتمل ورود القرينة في ذيل الكلام الواحد بنحو تكون قرينة متصلة بالكلام كله وفقدتْ هذه القرينة بالتقطيع ، فكيف نحرز الظهور التصديقي لهذا الكلام مع الشك في القرينة المتصلة والمفروض أنَّ أصالة عدم القرينة المتصلة لا تجري ولا يبني عليها العقلاء عندما لا تكون ناشئة من إحتمال الغفلة ؟