43/07/14
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / تحديد موضوع حجية الظهور
تبين مما تقدم أنَّ الكلام ليس في أصل إنعقاد الظهور وإنما في حجيته بعد فرض انعقاده، والسؤال الذي يُطرح هنا هو أنَّ إحتمال القرينة المنفصلة هل يمنع من العمل بالظهور بنظر العقلاء أم لا يمنع منه ؟
إختار المحقق النائيني قده المنع تبعاً للشيخ الإنصاري قده لأنَّ موضوع حجية الظهور هو عدم القرينة المنفصلة فلابد من إحراز هذا العدم ولو بأصل ومن دون إجراء الأصل يمنع إحتمال القرينة المنفصلة من العمل بالظهور لعدم تحقق موضوع الحجية وهو الظهور التصديقي مع عدم القرينة المنفصلة.
وإختار المحقق الأصفهاني قده عدم المنع لأنه يرى أنَّ جزء موضوع الحجية هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة - لا عدم القرينة المنفصلة - ومع إحتمال القرينة المنفصلة لا علم بها فنُحرز عدم العلم بها مع الجزء الآخر للموضوع ويتنقح موضوع الحجية ويكون الظهور حجة ، ويدعى أنَّ العقلاء يبنون على حجية الظهور مع إحتمال القرينة المنفصلة.
والكلام في أنَّ إحتمال القرينة المنفصلة هل يمنع من العمل بالظهور أم لا ؟
وقد مرّ ترجيح الإحتمال الثاني - أي عدم المنع - على الأول بسيرة المتشرعة على العمل بظهور كلام المعصومين عليهم السلام بالرغم من احتمال وجود القرينة المنفصلة ولو في الجملة ، وينشأ هذا الإحتمال من أنَّ الأئمة عليهم السلام ديدنهم الإعتماد على القرائن المنفصلة في مقام بيان مراداتهم بنحو صاراً أمراً شائعاً ومعروفاً عند المتشرعة فاذا لاحظ المتشرع ظهور رواية فهو يعتمد عليه بالرغم من إحتمال وجود قرينة منفصلة ، وهذا يكون دليلاً على أنَّ إحتمال القرينة المنفصلة لا يمنع من العمل بالظهور فيكون هذا دليلاً على ترجيح الإحتمال الثاني على الأول ، أي أنَّ المانع من العمل بالظهور هو العلم بالقرينة المنفصلة وأما إحتمالها فلا يمنع من ذلك وهذا هو الإحتمال الثالث من الإحتمالات الثلاثة المتقدمة.
نعم الإستدلال بسيرة المتشرعة بهذا الشكل إنما يتم إذا فرضنا أنَّ المتشرعة الذين يعملون بكلام المعصوم مع إحتمال وجود القرينة المنفصلة كانوا يعملون به مباشرة ولا يجرون أصالة عدم القرينة المنفصلة في مرتبة سابقة على التمسك بالظهور ، وأما إذا فرضنا أنهم لا يعملون بالظهور مباشرة وإنما يجرون أصالة عدم القرينة المنفصلة في مرتبة سابقة ثم يعملون بالظهور فمثل هذا العمل لا يؤيد الإحتمال الثالث في مقابل الأول ، فالفرض الأول يحتاج الى إثبات.
ويمكن أن يدعى لأثبات الفرض الأول أنَّ المتشرعة الذين يعملون بالظهور يعملون به بما هم عقلاء ونحن من العقلاء فنلاحظ سائر العقلاء ونجد أنهم يعملون بظهور الكلام مع إحتمال وجود القرينة المنفصلة من دون التمسك بأصل في مرتبة سابقة على الأخذ بالظهور.
وبعبارة أخرى لا يمكن أن يقال أنَّ المتشرعة يعملون بالظهور بعد إجراء الأصل لنفي إحتمال القرينة المنفصلة إرتكازاً ومن دون الإلتفات اليه هذا بعيد وذلك لأن العمل بالظهور عمل إختياري بالنسبة الى العقلاء وليس أمراً إرتكازياً ، فإذا أمكن إثبات ذلك فيكون الإستدلال بهذا الدليل تاماً وإلا فلا.
هذا بالنسبة الى ترجيح الإحتمال الثالث على الإحتمال الأول ، ويضاف إليه الى ما ذكره السيد الشهيد قده وهو أنَّ لازم الإحتمال الأول هو أن تكون أصالة عدم القرينة من الأصول التعبدية الصرفة وليست مبنية على الكاشفية وهو خلاف الرأي المختار من أنَّ الأصول اللفظية أصول عقلائية واعتبارها من باب الكاشفية ، وذلك للنكتة التي ذكرها وهي أنَّ كاشفية الأصول منوطة بالظهور وغلبة مطابقته للواقع فيرجح بذلك إحتمال عدم القرينة على إحتمال وجود القرينة وهذا في مرحلة متأخرة عن الظهور بينما الاحتمال الأول يقول أنَّ الأصول تجري في مرحلة أسبق على الظهور لنفي إحتمال القرينة ثم يتنقح موضوع الحجية ثم تثبت الحجية ، بينما هذا الوجه يقول أنه لا يمكن إجراء أصالة عدم القرينة إلا بعد إفتراض إستقرار الظهور وحجيته.
هذا كله بالنسبة الى القرينة المنفصلة لإثبات الجزء الثاني من موضوع الحجية بناءً على الإحتمال الأول.
أما الجزء الأول لموضوع الحجية وهو الظهور التصديقي فيتوقف على عدم القرينة المتصلة لأنها تمنع من إنعقاد الظهور فيتوقف أصل إنعقاد الظهور على عدمها ، فإذا أحرزنا عدمها فحينئذٍ نحرز الظهور التصديقي للكلام وأما إذا شككنا في القرينة المتصلة فلابد من نفي هذا الإحتمال بأصالة عدم القرينة المتصلة ، هذا بناءً على الإحتمال الأول.
وأنكر المحقق الأصفهاني قده ذلك وقال أنَّ التمسك بالحجية لا يتوقف على إجراء أصل إطلاقاً - لا أصالة عدم القرينة المنفصلة ولا المتصلة - لأنه يرى أنَّ الإحتمال الثاني هو الأرجح من هذه الإحتمالات، أي أنَّ موضوع الحجية هو الظهور التصوري الوضعي وهو لا يتأثر بالقرينة كما تقدم وإنما تدل القرينة على عدم إرادته ، ويقول أنَّ القرينة المتصلة بوجودها الواقعي لا تؤثر على الظهور الوضعي التصوري وإنما العلم بها يؤثر فيه بمعنى أنَّ الكلام لا يكون له ظهوراً تصورياً في معناه الأصلي بملاحظة القرينة وإنما يكون ظاهراً وضعاً وتصوراً في المعنى على طبق القرينة ، وبناءً عليه تكون النتيجة هي أنّ الذي يمنع من الجزء الأول هو العلم بالقرينة المتصلة ومع عدم العلم يتحقق الظهور التصوري ، والجزء الثاني للموضوع هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة ، وعليه نرجع في حالة الشك الى الظهور مباشرة ونلتزم بحجيته بلا حاجة الى إجراء أصل في مرتبة سابقة ، هذا هو رأي المحقق الأصفهاني قده.
والكلام فعلاً في الجزء الأول من الموضوع فهل هو الظهور التصديقي أم الظهور التصوري ؟ فإن قلنا هو الظهور التصديقي كما هو الحال في الإحتمال الأول والثالث فاحتمال القرينة المتصلة يكون مؤثراً فيه فلابد من نفيه ونفيه يكون بإجراء أصالة عدم القرينة المتصلة ، وأما إذا قلنا أنّ جزء الموضوع هو الظهور التصوري الوضعي فاحتمال القرينة المتصلة لا يمنع منه فلا نحتاج الى إجراء أصلٍ في مرتبة سابقة.
والدليل الذي يذكره المحقق الأصفهاني قده على مختاره هو لو كان الموضوع هو الظهور التصديقي فهو يؤدي الى عدم إمكان التمسك بهذا الظهور مطلقاً حتى مع إجراء أصالة عدم القرينة المتصلة وذلك لأنَّ أصالة عدم القرينة المتصلة هي من باب أصالة عدم المانع لأنَّ القرينة تُمثل المانع من التمسك بالظهور ، وأصالة عدم المانع إنما يمكن التمسك بها بعد إحراز وجود المقتضي وأما إذا كان الشك في أصل المقتضي فلا معنى لإجراء أصالة عدم المانع ، وما نحن فيه من هذا القبيل فإنَّ المفروض أنَّ عدم القرينة المتصلة دخيل في أصل إنعقاد الظهور التصديقي لأنَّ وجودها مانع من إنعقاد الظهور التصديقي ، والشك في القرينة المتصلة يعني الشك في الظهور التصديقي الذي يُمثل المقتضي بالنسبة الى التمسك بهذا الظهور وإذا كان الشك في المقتضي فلا معنى لإجراء أصالة عدم المانع.
وهذا الكلام لا يجري بالنسبة الى القرينة المنفصلة لأنها لا تمنع من إنعقاد الظهور التصديقي وعدمها ليس مأخوذاً في انعقاده فلذا يمكن القول أننا نحرز المقتضي ونشك في المانع ، وعليه إذا قلنا أنَّ جزء الموضوع هو الظهور التصديقي فهذا يؤدي الى عدم إمكان التمسك بالظهور حتى مع إجراء أصالة القرينة المنفصلة.
والحاصل: لو كان موضوع الحجية هو الظهور التصديقي فهو يستلزم عدم إمكان إحرازه في حالة عدم العلم به لأنه إنما يحرز حينئذٍ بأصالة عدم القرينة التي تعني أصالة عدم المانع بإعتبار أنَّ القرينة تكون مانعاً من العمل بالظهور ومن الواضح أنَّ أصالة عدم المانع إنما يُعقل جريانها عند إحراز المقتضي وفي المقام عند الشك لا إحراز للمقتضي بل الشك في القرينة المتصلة يعني الشك في الظهور التصديقي الذي يمثل المقتضي للبناء على الظهور والعمل به ومع الشك في المقتضي لا مجال لجريان أصالة عدم القرينة المتصلة فيتعذر إحراز موضوع الحجية فلا يمكن العمل بالظهور عند إحتمال القرينة المتصلة وهذا بخلاف ما إذا كان الموضوع هو الظهور الوضعي التصوري فإنه محرز بلا حاجة الى أصالة عدم القرينة ، نعم العلم بها يكون مانعاً من العمل به وهذا يعني أنَّ العمل به يكفي فيه عدم العلم بالقرينة المتصلة كما هو الحال في المنفصلة.