الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/07/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / تحديد موضوع حجية الظهور

الكلام في مرسلة الصرفي المتقدمة والواردة في أبواب السعي من كتاب الحج حيث يُسأل الإمام (..عن السعي بين الصفا والمروة ، فريضة أم سُنّة ؟ فقال : فريضة ) وإعترض السائل بأن الآية تقول ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ فكيف يكون فريضة فإنَّ المفهوم من ( لا جناح ) هو عدم الوجوب ولا يصح عرفاً التعبير عن الوجوب بذلك فلا يقال ( لا جناح عليك أن تصلي ) ولا يكون ذلك مقبولاً عرفاً ، وقد عبرت الآية بذلك عن السعي وهذا يعني أنه ليس واجباً ، والإمام أقرَّه على ذلك الفهم غاية الأمر أنه بيَّن له نكتة وهي أنَّ الآية نزلت في عمرة القضاء وكان الرسول قد أخذ عهداً من المشركين أن يرفعوا الأصنام التي وضعوها على الصفا والمروة عند مجيء المسلمين للعمرة، فسعى المسلمون وتخلف رجلٌ عن السعي وأراد السعي بعد أيام وقد أعاد المشركون الأصنام الى الصفا والمروة ، والآية نزلت بهذه المنسبة وتقول لا جناح على هذا الرجل الذي تخلف عن السعي أن يطَّوَّف بالصفا والمروة والأصنام موجودة ، فهي غير ناظرة الى أصل السعي حتى تدل على الترخيص فيه.

وتقريب الإستدلال بها هو أنَّ الإمام أقرَّه على إستظهاره لولا هذه الخصوصية والحال إنَّ إستفادة ذلك من(لا جناح) بحاجة الى عناية لأنَّ حاق اللفظ يشمل حتى الواجب فيقال ( لا جناح عليه أن يصلي ) غاية الأمر أنَّ الوجوب لا يناسبه التعبير بذلك ، فهذه المناسبة التي على أساسها إعترض السائل هي استظهار مبني على إعمال مناسبة والإمام أقرَّه على هذه الفهم.

وأما رواية أبان فاستُدِل بها على العكس أي أنَّ الإستظهار المبني على الملازمات العرفية ردع عنه المعصوم عليه السلام فتكون دليلاً معاكساً يدل على النهي عن الأخذ بالظواهر التي هي من القسم الثاني وهذا بخلاف الروايات المتقدمة التي تدل على جوازه ، وفي هذه الرواية تعجب أبان من حكم قطع أربعة أصابع قال:

(.. قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : عشرة من الإِبل ، قلت : قطع اثنتين ؟ قال : عشرون ، قلت : قطع ثلاثاً ؟ قال : ثلاثون ، قلت : قطع أربعاً ؟ قال : عشرون ، قلت : سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟! إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول: الّذي جاء به شيطان..) ، والحال إنَّ هذا الإستظهار مبني على ملازمة عرفية وإن لم تكن هناك ملازمة عقلية صرفة بين أن يكون الواجب في قطع ثلاثة أصابع ثلاثون من الإبل وبين أن يكون الواجب في قطع أربعة ما لا يقل عن ثلاثين من الإبل فليس في ذلك إستحالة عقلية ولكن هناك ملازمة عرفية ، وبالرغم من ذلك ردعه الإمام ولم يرض عن هذه الإستفادة بل وبخه بقوله (..يا أبان أنك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ) وهذا يعني الردع عن الأخذ بهذا الظهور المبني على الأخذ بالملازمات العرفية والداخل في القسم الثاني ، وهذا إستدلال معاكس لما تقدم .

والجواب عنه: يحتمل قوياً أنَّ التوبيخ الصادر بحق أبان ليس على الأخذ بهذا الظهور المبني على الملازمات العرفية وإنما على أخذه بهذا الظهور بالرغم من وجود النص فإنه ورده وسمعه لكن أبان رده بناءً على الأخذ بهذا الظهور وهذا ما يظهر من قوله:( قلت : سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟! إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول : الّذي جاء به شيطان ) فقد ردَّ النص إعتماداً على هذه المناسبة فالتوبيخ لهذا وليس على أصل الأخذ بالظهور المستند الى الملازمات العرفية والداخل في القسم الثاني.

وبناءً عليه لا مانع من الأخذ بكِلا الظهورين ويكون كُلاً منهما مشمولاً لأدلة الحجية كما سيأتي.

تحديد موضوع حجية الظهور

بعد أن فرغنا حجية الظهور بالأدلة السابقة - السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة - يقع الكلام في تحديد موضوع هذه الحجية ونقدم له مقدمة نذكر فيها أمرين:

الأمر الأول: للكلام ثلاث دلالات:

    1. الدلالة التصورية.

    2. الدلالة التصديقية من الدرجة الأولى.

    3. الدلالة التصديقية من الدرجة الثانية.

والدلالة التصورية منوطة بالوضع ومعلوله له فإذا عَلِمَ السامع بأنَّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى فحينئذٍ ينسبق ذهنه الى المعنى عند سماع هذا اللفظ فيقال أنَّ لهذا اللفظ دلالة على المعنى الموضوع له وهي دلالة تصورية صرفة لا يُشترط فيها صدور الكلام من لافظ ذي شعور فالمعنى الموضوع له اللفظ يخطر في ذهن السامع ولو صدر اللفظ الموضوع من الجدار وذلك لحدوث علاقة بين اللفظ وبين المعنى فيكون تصور اللفظ موجباً لتصور المعنى، ولا يخلو التعبير عنها بالدلالة من مسامحة.

وأما الدلالة التصديقية فهي دلالة حقيقة لكشفها عن إرادة المتكلم بخلاف الدلالة التصورية ، وما يريده المتكلم تارة يكون هو مجرد إخطار المعنى الموضوع له اللفظ في ذهن السامع فهذه دلالة تصديقية من الدرجة الأولى لأنها تدل على إرادة المتكلم لإخطار المعنى في ذهن السامع ، وهذه الدلالة لا يكفي فيها مجرد الوضع بل لابد من إفتراض صدور الكلام من متكلم ذي شعور وقصد وإرادة.

والدلالة التصديقية بدرجيتها تؤثر فيها القرينة على العكس من الدلالة التصورية التي لا تؤثر فيها إقامة القرينة على الخلاف، فلفظ ( أسد ) يوجب خطور المعنى الموضوع له اللفظ في الذهن حتى لو قال المتكلم ( أسد يرمي ) وأراد الرجل الشجاع بنصبه قرينة على ذلك فهو يريد إخطار المعنى المطابق للقرينة في ذهن السامع.

وأخرى يكون قصد المتكلم هو إخطار المعنى في ذهن السامع بنحو يكون ناشئاً من إرادة جدية بخلاف الدلالة التصديقية من الدرجة الأولى التي يريد المتكلم فيها إخطار المعنى في ذهن السامع ولكنه بنحو أعم ، فقد يكون هازلاً ولا يريده جداً ، وأما الدلالة التصديقية من الدرجة الثانية فإرادة الإخطار فيها جدية والمتكلم قصد إخطار المعنى وكان جاداً فهو يريد المعنى جداً وواقعاً في مقابل أن يريده هزلاً ولعباً ونحو ذلك.

وهذه الدلالة التصديقية من الدرجة ثانية ليست معلولة للوضع أيضاً وإنما هي من باب الكشف والإراءة ولذا يشترط في المتكلم أن يكون ذو شعور كما أنَّ القرينة على الخلاف تضر فيها كما تضر في الدلالة التصديقية من الدرجة الأولى.

تأثير القرينة على الخلاف في الدلالتين

تارة تكون القرينة على خلاف المعنى الموضوع له اللفظ متصلة بالكلام فلا يمكن أن نقول أنَّ المتكلم يريد إخطار المعنى الموضوع له اللفظ ولا هو يريده جداً وإنما يريد إخطار المعنى الذي على طبق القرينة ويريده جداً ، فالقرينة المتصلة تمنع من إنعقاد الدلالة التصديقية من الدرجة والأولى والثانية إذ لا يمكن الجمع بين إرادة المعنى الموضوع له اللفظ مع الإتيان بالقرينة الى خلافه الدال على أنَّ المتكلم يريد إخطار المعنى الذي تدل عليه القرينة ويريده جداً وواقعاً.

وأخرى تكون القرينة منفصلة عن الكلام والظاهر أنها لا تؤثر على الظهور في أي مرتبة من مراتبه لا في مرتبة الدلالة التصديقية من الدرجة الأولى ولا من الدرجة الثانية وذلك لأن انفصالها يعني أن الكلام تم وإستقر فينعقد له ظهور ويكون له ظهور تصديقي من الدرجة الأولى والثانية ، بمعنى أننا نستكشف من الكلام أنَّ المتكلم يريده إخطار المعنى الموضوع له اللفظ أولاً وأنه يريده جداً ثانياً ، فإذا جاءت القرينة المنفصلة بعد ذلك فلا تهدم أصل الظهور وإنما تزاحمه في الحجية ، فلو تكلم بكلام مطلق أو عام فهو حجة في الإطلاق وحجة في العموم ثم إذا جاء بالمقيد أو المخصص المنفصل فيزاحمه في الحجية بمعنى أنه يوجب إسقاط الحجية التي ثبتت لهذا الظهور.

الأمر الثاني: الغرض الاساسي في هذا البحث هو إثبات الظهور التصديقي من الدرجة الثانية لأنه هو الذي تترتب عليه الآثار من وجوب الإطاعة وقبح المعصية والتأمين والتعذير والتنجيز مما يترتب على الإرادة الجدية للمولى.

فإذا تمت هذه المقدمة ندخل في أصل البحث ، وهو أنَّ هناك إحتمالات ثلاثة في تحديد موضوع حجية الظهور ، وهي:

الأول: أن يكون موضوع الحجية مركب من الظهور التصديقي وعدم القرينة المنفصلة ، ويحرز الظهور التصديقي بعدم القرينة المتصلة لأنها هي التي تمنع من أصل الظهور هذا الجزء الأول من الموضوع ، وأما الجزء الثاني وهو عدم القرينة المنفصلة فيحرز بأصالة عدم القرينة المنفصلة ، فلأحراز موضوع الحجية نحتاج الى إجراء أصلين في مرتبة سابقة على إحراز الظهور وهما أصالة عدم القرينة المتصلة وأصالة عدم القرينة المنفصلة ، ومع عدم إحراز هذين الجزءين لا يكون هذا الظهور حجة.

الثاني: أن يكون موضوع الحجية هو الظهور التصوري وعدم العلم بالقرينة على الخلاف ، وهذا يحرز بسهولة من دون الحاجة الى إجراء أصل أما الظهور التصوري فيحرز بالعلم الوضع ، وأما عدم العلم بالقرينة على الخلاف يحرز بالوجدان ، فنُحرز كِلا الأمرين من دون الحاجة الى إجراء أصل.