43/07/10
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / الجواب الرابع عن الإشكال الثاني
الجواب الرابع : يمكن الإستدلال على حجية الظواهر من القسم الثاني ببعض الروايات الظاهرة في إحتجاج الأئمة عليهم السلام على بعض الأحكام الشرعية - خصوصاً في ظواهر الآيات القرآنية - وهي عدة روايات:
الأولى: رواية عبد الأعلى مولى آل سام (قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : عثرتُ فانقطع ظفري ، فجعلتُ على إصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء ؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ ، قال الله تعالى ﴿ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ امسح عليه.)[1]
ومن الواضح أن دلالة الآية على جواز المسح على المرارة وسقوط ما هو المعتبر في الوضوء من مباشرة الماسح للممسوح بحاجة الى إعمال عناية إذ ليس في الآية ظهور في جواز المسح على المرارة ، بل نفي الحرج يقتضي إبتداء سقوط المسح على الظفر وإن قلنا أنه دخيل في الوضوء فيسقط عنه الوضوء وننتقل الى بديله وأما جواز المسح على المرارة فليس ظاهراً ظهوراً واضحاً يفهمه كل أحد وإنما لابد من إعمال عناية وهي هنا ما ذكر من أنَّ المسح على المرارة ميسور من المسح على العضو فكأنَّ المطلوب في مسح العضو شيئان أصل المسح والمباشرة والحرج يُسقط المباشرة فيبقى أصل المسح من دون مباشرة ، وهو يعني المسح على المرارة ، فيكون ميسوراً بالنسبة الى وجوب المسح ولا يسقط الميسور بالمعسور ، وهذا معناه وجوب المسح على المرارة ، وهذا ظهور بحاجة الى بذل عناية ويدخل الظهورات من القسم الثاني.
الثانية: صحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : ألا تخبرني من أين علمتَ وقلتَ ، أنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك فقال : يا زرارة ، قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ ، لأنّ الله عزّ وجلّ قال ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ، ثمّ قال : ﴿ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ﴾ فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : ﴿ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ﴾ فعرفنا حين قال : « برؤسكم » أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ، ثمّ وصل الرجلين بالرأس ، كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : ﴿ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ثمّ فسّر ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للناس فضيّعوه ، الحديث.)[2]
ولكن الباء ليست للتبعيض وإنما للإلصاق و (من) للتبعيض فكيف نستظهر من الباء جواز المسح على بعض الرأس؟ وهذا الظهور يدخل في القسم الثاني بإعتبار نكتة وعناية وهي أنَّ الباء دالة على إلصاق المسح بالرأس فكأنه يُشعر بالتخفيف في المسح بمعنى أنه يكفي فيه مجرد إلصاق اليد بالرأس ويلازمه الإكتفاء بمسح بعض الرأس ولكن هذا ظهور بحاجة الى التدقيق والعناية.
الثالثة: رواية عبد الله بن سنان ( قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : على الإِمام أن يسمع من خلفه وإن كثروا ، فقال : ليقرأ قراءة وسطاً يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ وَلَا تَجهَر بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِت بِهَا ﴾[3]
فاستدل بالآية على أنَّ الإمام يقرأ قراءة وسطاً ، والمراد منه جهرٌ وسط ، ولكن كيف يُفهم هذا من الآية الشريفة إذ لا يوجد حد وسط بين الجهر والإخفات فالقراءة إما أن تكون جهرية إن أظهرَ جوهر الصوت وإما إخفاتية إن لم يظهره ، فالصلاة الوسط بمعنى الجهرية ولكن لا بصوت مرتفع لا تفهم من الآية الشريفة فلابد أن تفهم بعنايات من قبيل أنَّ الآية تنهى عن المراتب الشديدة لكل من الجهر والإخفات.
الرابعة: معتبرة معاوية بن عمّار قال : سألت : أبا عبدالله ( عليه السلام ) عن طائر أهليّ أُدخل الحرم حيّاً ، فقال : لا يمسّ لأن الله تعالى يقول : ﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾[4]
والآية بحسب مدلولها الفظي لا تدل على أنَّ الطير يكون آمناً داخل الحرم لأنَّ ( مَنْ ) للعاقل ولا تشمل الطير ولكنه عليه السلام إستدل بها على أنَّ الطير يكون آمناً إذا دخل الحرم كالإنسان فلابد من عناية من قبيل أنَّ حرمة الحرم تقتضي هذا ولا يختص الأمن بالإنسان فنلغي الخصوصية بنحو يعم الحيوان لأن ذلك هو مقتضى حرمة الحرم فالخصوصية ليست للداخل وإنما للحرم وهذا ظهور مبني على إعمال عناية فيدخل في القسم الثاني.
الخامسة: معتبرة محمد بن مسلم ( قال : سألت أحدهما ( عليهما السلام ) عن رجل كانت له جارية فأعتقت فتزوجت فولدت ، أيصلح لمولاها الأوّل أن يتزوّج ابنتها ؟ قال : لا ، هي حرام وهي ابنته والحرّة والمملوكة في هذا سواء .
وعنه ، عن صفوان عن العلا بن رزين ، مثله وزاد: ثم قرأ هذه الآية ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾.[5]
فالإمام إعتبرها ربيبة ، ولكن الربيبة هي بنت الزوجة ومقيدة بأن تكون ﴿فِي حُجُورِكُم﴾ فألغى الإمام عليه السلام خصوصية كونها بنت الزوجة وتعدى الى بنت الأمة مع أنها ولدت بعد أن فارقت الأمة مولاها فهي ليست في حجر الزوج ، وهذا إستدلال بالآية مع أنه ليس ظهوراً واضحاً يفهمه كل أحد.
السادسة: رواية عمر بن يزيد ( عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : قال الله تعالى في كتابه: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ فمن عرض له أذىً أو وجع فتعاطىٰ ما لا ينبغي للمُحرم إذا كان صحيحاً فالصيام ثلاثة أيّام ، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم من الطعام ، والنسك : شاة يذبحها فيأكل ويُطعم وإنّما عليه واحد من ذلك.)[6]
والآية ذكرت المرض والأذى من الرأس والإمام عليه السلام ذكر الوجع وهو غير المرض وذكر مطلق الأذى لا خصوص المرض في الرأس وهذا ظهور لا يُفهم من نفس الآية بشكل واضح وإنما يتوقف على إلغاء خصوصية المرض فيُتعدى الى مطلق الوجع وإلغاء خصوصية الأذى من الرأس فيتعدى الى مطلق الأذى ، وبناءً على إستفادة هذا الحكم من الآية فهذا ليس تمسكاً بالظهور العرفي من القسم الأول.
وهناك شيء آخر وهو أنَّ الآية واردة في حلق الرأس وتقول ﴿فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ لكن الإمام تعدى منه الى كل ( ما لا ينبغي للمُحرم إذا كان صحيحاً ) وهذا تعدي آخر مبني على إلغاء خصوصية مورد الآية وهو حلق الرأس.
السابعة: مرسلة الحسن بن علي الصيرفي ( عن بعض أصحابنا قال : سُئل أبو عبدالله ( عليه السلام ) عن السعي بين الصفا والمروة ، فريضة أم سُنّة ؟ فقال : فريضة ، قلت : أو ليس ) قال الله عزّ وجلّ ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ قال : كان ذلك في عمرة القضاء إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة ، فتشاغل رجل ترك السعي حتّى انقضت الأيّام وأُعيدت الأصنام ، فجاؤوا إليه فقالوا : يا رسول الله ، إنّ فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد أُعيدت الأصنام ، فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ أي وعليهما الأصنام [7] (.
والذي يفهم من ( لا جناح ) عرفاً هو عدم الوجوب وكأنَّ الإمام عليه السلام في مقام المحاورة أقرّه على هذا الفهم بينما لا مانع عند التدقيق من أن يقال للمستحب أنه لا جناح عليه وإنما أقره على ذلك بإعتبار المناسبات العرفية فيقال لا جناح عليه أن تفعل كذا بمعنى نفي الوجوب فهذا التعبير يستعمل في غير الأحكام الإلزامية.
الثامنة : رواية أبان بن تغلب المعروفة ( قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : عشرة من الإِبل ، قلت : قطع اثنتين ؟ قال : عشرون ، قلت : قطع ثلاثاً ؟ قال : ثلاثون ، قلت : قطع أربعاً ؟ قال : عشرون ، قلت : سبحان الله يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟! إنَّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول : الّذي جاء به شيطان ، فقال : مهلاً يا أبان هذا حكم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، إنَّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فاذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، يا أبان أنك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين )[8] .