43/06/28
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / الإستدلال على الحجية بسيرة المتشرعة
الأمر الثالث - من الأمور الأربعة التي أشار إليه المحقق الخراساني قده - وهو لمَ لا يُستدل بسيرة المتشرعة على حجية الظواهر؟ وبعبارة أخرى هل يمكن الإستدلال على حجية الظواهر بسيرة المتشرعة أم هناك مانع من ذلك ؟
لعل السبب في ذلك هو أنَّ سيرة المتشرعة إنما تشكف عن الرأي الشرعي فيما إذا كانت معلولة له ، أي حينما ينحصر تفسيرها بالتلقي من الشارع وأما إذا فرضنا عدم الإنحصار فيه وإمكان أن تكون متلقاة من الشارع أو تكون ناشئة من المرتكزات العقلائية - وهي التي أسميناها بسيرة المتشرعة بالمعنى الأعم - فمثل هذه السيرة لا تكون كاشفة عن الحكم الشرعي كشف المعلول عن العلة فلذا لم يستدلوا بسيرة المتشرعة على حجية الظواهر واقتصروا على الإستدلال بسيرة العقلاء.
والحاصل: لو أحرزنا عمل المتشرعة بالظواهر فلا يمكن إحراز أنه صدر منهم بما هم متشرعة بل من المحتمل أن يكون صدر منهم بما هم عقلاء ، بخلاف سيرتهم على الجهر بالقراءة في صلاة الظهر في يوم الجمعة فليس لها تفسير إلا التلقي من قبل الشارع - وهي سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص - .
ولكنه غير صحيح لأنَّ سيرة المتشرعة سواءً كانت بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم ملاك إستكشاف الحكم الشرعي فيهما واحد وهو الكشف الإنّي عن الحكم أي كشف المعلول عن العلة ولا ينحصر ذلك بسيرة المتشرعة بالمعنى الأخص وذلك لما تقدم من أنَّ إفتراض عدم التلقي من قبل الشارع في سيرة المتشرعة حتى إذا انطلقت من المنطلقات العقلائية فهو يعني إنسياق جميع المتشرعة وعملهم في أمر يخص الشارع ويرتبط به من دون الرجوع اليه ولو من قبل بعض المتشرعة وهذا إفتراض بعيد جداً فإنَّ الشارع قد يوافق العقلاء وقد يخالفهم فلابد من أنَّ يسأل بعض المتشرعة الشارع عن إتباع هذه الطريقة ولابد من إفتراض أنَّ بعضهم تلقى ذلك من قِبل الشارع وهذا يكفي لإثبات الإمضاء وإثبات رأي الشارع بحيث تكون هذه السيرة كاشفة عنه كشفاً إنياً ولو بنحو الموجبة الجزئية ، فلا نُفرِّق بين سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص وبين سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم بلحاظ الكشف عن الحكم الشرعي غاية الأمر أنَّ كشف سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص عن الحكم الشرعي كشف واضح جداً لأنها معلولة له فتكشف عنه بنفسها كشفاً إنياً ، وأما سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم فتكشف عنه كشفاً إنياً أيضاً لكن بعد ضم المقدمة الشرطية الأولى لها وهي أنَّ إحتمال إطباق المتشرعة على العمل بالظواهر انطلاقاً من مدركاتهم العقلية من دون مراجعة الشارع بعيد جداً.
فإن نوقش في هذا البيان فنقول:
إنَّ هذا لا يُسقط سيرة المتشرعة عن صلاحية الإستدلال بها على حجية الظواهر ولكن ببيان آخر وهو أن نقول:
هناك فرق بين سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص وبين سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم وهو أنَّ السيرة بالمعنى الأخص تكشف عن الحكم الشرعي كشف المعلول عن العلة كما تقدم ، وأما سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم فنحتاج معها لاستكشاف الحكم الشرعي الى ضم المقدمة الشرطية الأولى وهي ( لو لم يرضَ لردع ) وبذلك تختلف سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم عن السيرة العقلائية التي تحتاج الى ضم كلتا المقدمتين ، ولا حاجة هنا الى المقدمة الثانية لإثبات عدم الردع من خلال عدم الوصول لأننا نحرز عدم الردع بمجرد إفتراض إنعقاد سيرة المتشرعة ، إذ ليس من المعقول أن يردع الشارع ويتفق المتشرعة على مخالفته ، وإذا كانت سيرتهم منعقدة على العمل بالظواهر كما هو المفروض ولو من منطلقات عقلائية فهذا يعني أنَّ الشارع لم يردع عنها فنحرز عدم الردع بضم الشرطية الأولى لها ، وذلك لأنَّ العمل بالظواهر إما ممتد الى المجال الشرعي فعلاً أو هو في معرض الإمتداد له وعلى كِلا التقديرين يُشكل خطراً على أغراض الشارع فلابد من الردع لو لم يرضَ بهذه السيرة ، وبهذا نستكشف الموقف الشرعي من سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم كما إستكشفناه من السيرة المتشرعة بالمعنى الأخص غاية الأمر أنَّ الكشف في السيرة بالمعنى الأخص يكون كشفاً إنياً وهنا لا يكون كذلك ويكون بمعونة الشرطية الأولى.
ومن هنا يتبين أنه لا وجه لعدم الإستدلال بسيرة المتشرعة على حجية الظواهر بل يمكن الإستدلال بها كما إستدلوا بالسيرة العقلائية ، وعليه فإن إستطعنا إثبات أنَّ هذه السيرة هي سيرة للمتشرعة بالمعنى الأخص فيثبت المطلوب إلا أنَّ ذلك صعب بالنسبة الى العمل بالظواهر إذ لا ينحصر تفسيرها بالتلقي من الشارع ، بل المظنون قوياً أنهم يعملون بالظواهر انطلاقاً من المرتكزات العقلائية ، وحينئذٍ يمكن إثبات أنها سيرة للمتشرعة بالمعنى الأعم ويصح الإستدلال بها على حجية الظواهر مع ضم الشرطية الأولى لها ، هذا كله إذا أنكرنا البيان الأول وأما إذا أتممناه فتكون كاشفة عن الحكم الشرعي كشفاً إنياً.
وهذا تمام الكلام في الأمر الثالث من الأمور الأربعة.
الأمر الرابع : هل حجية الظواهر مقيدة بالظن بالوفاق أو مقيدة بعدم الظن بالخلاف أم غير مقيدة بشيء من ذلك؟
وهذا بحث مهم وله ثمرات عملية إذ بعض الظواهر لا يحصل معها الظن بالوفاق أو قد يحصل معها الظن بالخلاف فلا يكون الظهور حجة إذا كان مقيداً بعدم الظن بالخلاف ، وأما إذا قلنا أنَّ حجية الظواهر مطلقة فلا يضر الظن بالخلاف في حجية هذا الظهور.
قد يقال: أنَّ الجواب يختلف بإختلاف ما نستدل به على حجية الظواهر فإن كان الدليل هو السيرة العقلائية فيقال إنَّ حجية الظهور مطلقة وغير مقيدة لا بالظن بالوفاق ولا بعدم الظن بالخلاف وذلك لأنَّ هذه السيرة قائمة على حجية الظهور مطلقاً من غير تقييد ، ويشهد لذلك ما ذكره المحقق الخراساني قده من أنَّ العقلاء يُدينون من يترك العمل بظهور كلام المولى معتذراً بعدم حصول الظن بالوفاق أو معتذراً بحصول الظن بالخلاف وهذا يعني أنهم يبنون على حجية الظهور مطلقاً ، كما أنهم يرون العامل بالظهور لا يستحق الإدانة حتى إذا ظنَّ بالخلاف أو لم يحصل له الظن بالوفاق ، وهذا يكشف على أنَّ السيرة العقلائية منعقدة على العمل بالظهور مطلقاً ، فالظهور حجة وإن حصل الظن بالخلاف أو لم يحصل الظن بالوفاق.
وإن كان الدليل على حجية الظهور هو سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم فمن الصعب جداً إثبات إطلاق الحجية لجميع هذه الحالات وذلك باعتبار أنَّ سيرة المتشرعة تعني أنَّ هناك مجموعة من الناس يقومون بعمل في الخارج إلا أننا لم نعاصرهم فلم يثبت لدينا تفاصيل عملهم ، نعم نعلم أنهم يعملون بالظهور في الجملة ولا نعلم هل هو مطلقاً أم مع حصول الظن بالوفاق أو مع عدم حصول الظن بالخلاف فالقضية مجملة بالنسبة الى عمل المتشرعة ، وبهذا تختلف عن السيرة العقلائية التي نحن جزء منها وبالرجوع الى مرتكزاتنا نجد أنَّ حجية الظهور ليست مقيدة بأحد هذين الأمرين ، وحينئذٍ يقال لا يمكن إثبات حجية الظهور إعتماداً على سيرة المتشرعة إلا في الجملة بمعنى الإقتصار على القدر المتيقن وهو العمل بالظهور إذا حصل الظن بالوفاق أو لم يحصل الظن بالخلاف.
وجوابه: إنَّ إستكشاف سيرة المتشرعة في زمان المعصومين عليهم السلام يعتمد على أننا لو لم نفترض وجودها فلابد من وجود بديل لها وهذا البديل يُشكل ظاهرة غريبة ولو كانت لنقلت إلينا ومن عدم نقلها نستكشف عدم وجودها وهو يعني إنعقاد السيرة على ذلك الشيء ، وفي محل الكلام السيرة التي نريد استكشافها هي عمل المتشرعة بالظهور فنقول لو لم يعملوا بالظهور فإما أن يسلكوا الطرق القطعية العلمية أو يبنون عملهم على الإحتياط وكل منها يُشكل ظاهرة غريبة ويؤثر في حياتهم فلابد من أن تُذكر ويصل إلينا شيء من ذلك وحيث لم يصلنا منها شيء فنستكشف أنَّ سيرتهم كانت منعقدة على العمل بالظواهر.