43/06/26
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / الإستدلال على الحجية بالسيرة العقلائية
فرغنا عن أنه لا مجال للتعبد في السِير العقلائية في مجال الأغراض التكوينية للعقلاء لأنَّ المطلوب فيه هو تحصيل الواقع فلا معنى للتعبد في هذا المجال ، وهذا هو البحث الصغروي.
أما البحث الكبروي فلو سلَّمنا كون عمل العقلاء بالظواهر في مجال الأغراض التكوينية هو من باب التعبد فهل ينفع في إثبات حجية الظواهر في مجال الأغراض التشريعية أم لا ؟
قد يقال إنه لا ينفع في هذا المجال بمعنى أننا إذا تعقلنا الحجية التعبدية للظواهر عند العقلاء في أغراضهم التكوينية فغاية ما يثبت بذلك بعد إثبات عدم الردع وإستكشاف الإمضاء هو إمضاء الشارع لهذه السيرة في مجال أغراضهم التكوينية وهذا غير المطلوب لأنَّ المراد إثباته هو حجية الظواهر في الأغراض التشريعية في التنجيز والعذير لا في إستكشاف الواقع.
وجوابه أنَّ هذا لا يمنع من الإستدلال بالسيرة على حجية الظواهر في مجال الأغراض التشريعية وهذا نظير ما سيأتي من أنَّ هناك سيرة عقلائية منعقدة على العمل بالظواهر في مجال الأغراض التشريعية فيما بينهم، وهذه سيرة يمكن فرض التعبد فيها وذلك بأن يُدرك العقلاء أنَّ حفظ نظامهم يتوقف على أن يكون ظاهر كلام المولى العرفي حجة على عبده أي يكون منجزاً إذا كان ظاهراً في التكليف ومعذراً إذا كان ظاهراً في عدمه وهذا ما يمكن فرضه ، فلو فرضنا وجود هذه السيرة فيُطرح السؤال ذاته وهو هل يمكن الإستدلال بهذه السيرة لإثبات حجية الظواهر في مجال الأغراض التشريعية للشارع المقدس ، والجواب فيهما واحد فيقال:
إنَّ إفتراض هذه السيرة العقلائية على العمل بالظواهر في مجال أغراضهم التشريعية سيخلق لهم طبع وعادة وسجية تمتد الى الأغراض التشريعية للشارع المقدس فيكون ظاهر كلام الشارع منجزاً ومعذراً أيضاً ، ولو فرضنا أنَّ الشارع لا يرضى بذلك لردع عنها و لنَبَّه على عدم جواز إمتداد هذه السيرة لأغراضه التشريعية وحيث لم يردع فيستكشف من ذلك الإمضاء ، ونفس هذا الجواب نذكره في محل الكلام فيقال:
إنَّ السيرة العقلائية المنعقدة على العمل بالظواهر ولو في مجال الأغراض التكوينية يخلق عندهم عادة وطبع وسجية تكون في معرض الإمتداد الى المجال الشرعي ، نعم هناك فارق لا يمكن إنكاره وهو أنَّ الإمتداد في محل الكلام يكون أضعف بكثير من الإمتداد الحاصل من الأغراض التشريعية للعقلاء التي هي أقرب الى مجال التنجيز والتعذير ، ولكنه تفاوت بالشدة والضعف وأما الجواب فواحد في المجالين التكويني والتشريعي للعقلاء.
ويمكن التأمل في ما ذكرناه مما يرتبط بمجال الأغراض التكوينية للعقلاء وهو أنَّ المفروض هو إنعقاد السيرة العقلائية على العمل بالظواهر في مجال الأغراض التكوينية خاصة بمعنى عدم إفتراض السيرة في مجال الأغراض التشريعية للعقلاء، وهذا الإفتراض يعني أنَّ العقلاء يُفرقون بين الأغراض التشريعية وبين الأغراض التكوينية فالسيرة منعقدة في الثانية دون الأولى بحسب الفرض ، وحينئذٍ لا يمكن أن نقول أنَّ سيرتهم المنعقدة في الأغراض التكوينية تخلق لهم سجية وطبع وعادة تمتد الى الأغراض التشريعية.
نعم ينقل بعض تلاميذ السيد الشهيد قده - وهو السيد الحائري حفظه الله - أنَّه كان يشترط أن لا تكون نكتة العمل واضحة وملتفتاً إليها عند العقلاء وإنما تكون هي المحركة لهم من وراء الستار بشكل غير ملتفت إليه تفصيلاً ، قال ما نصه[1] :
( وكان يرى (رحمه الله) أنّه على كِلا التقريبين يشترط في حصول العادة بالشكل الذي يؤدّي إلى التوسعة والتعدّي إلى موارد الشرعيّات التي لم تكن نكتة ذاك الجري تقتضي التعدّي إليها: أن لا تكون نكتة العمل والأدب والحسن واضحاً وملتفتاً إليه عند العقلاء، وإنّما تكون هي المحرّكة لهم لا شعوريّاً والثابتة في أذهانهم من وراء الستار، وبشكل غير ملتفت إليه تفصيلاً، وعندئذ تحصل العادة والتوسعة والتجاوز إلى الموارد التي لا توجد فيها تلك النكتة.)
أي تتوسع الى الأغراض التشريعية فتشكل خطراً على أغراض الشارع ومن سكوته نستكشف الإمضاء ، وهذا عندما لا تكون النكتة ملتفتاً إليها من قبل العقلاء ففي حالة من هذا القبيل تكون السيرة في معرض الإمتداد الى المجال الشرعي بخلاف ما إذا كانوا ملتفتين الى هذه النكتة تفصيلاً فإنّ هذه السيرة لا تكون في معرض الإمتداد الى مجال الأغراض التشريعية.
وبناءً على صحة ما تقدم - أي إمكان الإستدلال بالسيرة العقلائية القائمة على العمل بالظواهر في مجال الأغراض التكوينية لإثبات حجية الظواهر في مجال الأغراض التشريعية للشارع المقدس - نقول:
لا يُفرق بين أن تكون السيرة العقلائية على العمل بالظواهر من باب التعبد أو من باب النكات الخاصة المختلفة المتقدم ذكرها فهذه تُشكل لهم سجية وعادة تكون في معرض الإمتداد الى الأغراض الشرعية للشارع فتُعرِّض أغراضه للخطر ولو لم يرضَ لردع عنها ومن عدم الردع نستكشف الإمضاء من دون فرق بين أن تكون السرية العقلائية قائمة على أساس التعبد أو على أساس شيء آخر.
وبهذا يتبين الفرق بين السيرة العقلائية على العمل بالظواهر في مجال الأغراض التكوينية وبين السيرة العقلائية على العمل بالظواهر في مجال أغراضهم التشريعية وهو مجال التنجيز والتعذير فيما بينهم، وقلنا أنه يمكن فيه التعبد حتى مع الشك ويكون ظهور كلام المولى منجزاً على العبد ويستحق عليه العقاب على تقدير التخلف وكل ذلك لأجل حفظ النظام ، فهل يمكن الإستدلال بهذه السيرة على حجية الظواهر عند الشارع ؟
ولا يرد على هذه السيرة ما تقدم من المناقشة الصغروية والكبروية بل يختصان بالسيرة العقلائية في مجال الأغراض التكوينية ، أما المناقشة الصغروية فلوضوح إمكان التعبد في مثل هذه السيرة فيبني العقلاء على ظاهر كلام المولى حتى مع الشك ويكون حجة للمولى على عبده وحجة للعبد على مولاه ، فالمناقشة الصغروية غير واردة.
وكذلك لا ترد المناقشة الكبروية بمعنى أننا لو فرضنا إنعقاد سيرة العقلاء على العمل بالظواهر في مجال التنجيز والتعذير فيما بينهم فنستكشف منه حجية الظواهر في مجال الأغراض التشريعية عند الشارع لما تقدم من أنَّ هذه السيرة تخلق عند العقلاء سجية وعادة وطبع يمتد الى المجال الشرعي ولا يُفرقون حينئذٍ بين المولى العرفي والمولى الحقيقي فكما يكون ظاهر كلام المولى العرفي حجة ومنجزاً على العبد ومعذراً له أمام مولاه فكذلك يكون ظاهر كلام المولى الحقيقي منجزاً ومعذراً بلا فرق بينهما ، فتمتد هذه السيرة الى المجال الشرعي وتشكل خطراً على أغراض الشارع ، بل الخطر هنا أشد من إمتداد السيرة المنعقدة في مجال الأغراض التكوينية كما تقدم، فلو لم يرضَ الشارع لردع عنها وحيث لم يرد فنستكشف الإمضاء.
وأما المراد من إنعقاد سيرة عقلائية على العمل بالظواهر تعبداً في مجال الأغراض التشريعية للعقلاء وإثبات التنجيز والتعذير فليس المقصود منه هو أنَّ كل عاقل يجعل ظهور كلام أي مولى حجة على عبد ذلك المولى فهذا لا معنى له لأنه من مختصات المولى نفسه لأنها حجية تعبدية فللمولى أن يجعلها حجة على عبده أو لا يجعلها كذلك ، وإنما المراد هو أنَّ كل عاقل لو قُدِّر له - بنحو القضية الشرطية - أن يكون مولى لجعل ظاهر كلامه حجة على عبده وبهذا تنعقد السيرة من قِبل جميع العقلاء على العمل بالظواهر واعتبارها حجة في التنجيز والتعذير ، هذا هو المقصود من السيرة العقلائية في محل الكلام