43/06/25
الموضوع: الظن/ حجية الظواهر / الإستدلال على الحجية بالسيرة العقلائية
كان الكلام في حجية الظهور وهل هي حجية ثابتة على سبيل القطع فلا حاجة الى إقامة الدليل عليها أم هي حجية تعبدية ظنية ولذا لابد من الإستدلال عليها ؟
يُنسب الى الشيخ الأنصاري قده أنها ثابتة بثبوت قطعي فلا حاجة للإستدلال عليها ، نعم ذكر ذلك بشرط عدم وجود قرينة وهذا واضح لأنَّ الظاهر لا يكون حجة مع وجود القرينة على خلافه ، ويمكن تقريب ما ذًكر بتقريبين:
التقريب الأول: أن يقال إنَّ الكلام إذا كان ظاهراً في معنى وكان المتكلم في مقام البيان فإرادة خلاف الظاهر مع عدم نصب القرينة عليه يكون خُلفاً ، فهنا شرطان:
الأول أن يكون المتكلم في مقام بيان تمام مراده بكلامه ، الثاني أن لا ينصب قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، فإرادة خلاف الظاهر مع هذين الشرطين خلف ، وبذلك يحصل القطع بإرادة ظاهر هذا الكلام.
التقريب الثاني: أنَّ المراد من حجية الظهور هو كون حق الطاعة للمولى يقتضي العمل بما ثبتت له الحجية ، فمعنى الحجية هو أنَّ حق الطاعة يقتضي العمل بما هو حجة فالذي يلتزم عملاً بذلك الشيء الذي ثبتت له الحجية يكون مؤدياً لحق المولى وعاملاً بحق الطاعة ، وتطبيقه على حجية القطع هو أنَّ حق الطاعة للمولى يقتضي العمل بالقطع والعامل به يكون مؤدياً لحق الطاعة للمولى ، وبناءً عليه يكون العمل بالقطع حجة ولا داعي لإقامة دليل على حجيته لأنَّ الغرض من إقامة البرهان هو الوصول الى أنَّ العمل بالقطع يرضي المولى وأنه أداءً لحقه وقد توصلنا إليه بدون الحاجة الى إقامة دليل وذلك بدعوى أنَّ القطع يعتبر أداءً لحق المولى وعملاً بحق الطاعة والقيام بمراسم العبودية التي يحكم بها العقل تجاه المولى، فالقطع حجة وحجيته ذاتية، ومن هنا يكون القطع منجزاً للتكليف إذا تعلق به بحيث يستحق العبد العقاب على المخالفة حتى إذا لم يكن التكليف ثابتاً في الواقع ، ويكون معذراً للعبد إذا قطع بعدم التكليف حتى إذا كان التكليف ثابتاً في الواقع.
وفي محل الكلام هل يمكن أن نذكر هذا التقريب الذي ذكرناه في القطع ، فهل الظواهر كالقطع لا تحتاج حجيتها الى دليل ؟ وبعبارة أخرى العمل بالظواهر هل فيه أداء لحق المولى وهل فيه القيام بحق الطاعة وأداء لمراسم العبودية كما هو الحال في القطع ؟
المدعى في التقريب الثاني أنَّ حجية الظواهر كحجية القطع ليست بحاجة الى إقامة دليل وبرهان عليها بنفس البيان ، وكأنَّ هذا التقريب يتوقف على فرض أنَّ العمل بالظواهر طريقة اتخذها الشارع لبيان مراده بكلامه في مقام التفهيم ، وحينئذٍ يأتي الكلام السابق ولابد أن يكون العمل بالظاهر إطاعة للمولى وعملٌ بحق الطاعة له وقيام بمراسم العبودية له ، والجواب يقول:
لا يبعد أن يكون ذلك صحيحاً إذ لا توجد طريقة أخرى اتبعها الشارع لتفهيم مراده فلابد أنه إعتمد على الظهور ولكن كشف مراد الشارع إعتماداً على ظهور كلامه يتوقف على مقدمتين:
الأولى: أن يكون في مقام بيان مراده بكلامه.
الثانية: أن لا ينصب قرينة على إرادة خلاف الظاهر.
فإذا أحرزنا هاتين المقدمتين أمكن تشخيص مراد الشارع إعتماداً على الظهور ولا تكون حجية الظهور بحاجة الى إقامة برهان بعد إحراز هذه المقدمات.
إلا أنَّ المشكلة تكمن في فرض حصول الشك في هاتين المقدمتين أو في أحداهما ، وهذا الشك يحصل حتى في الآيات القرآنية إذ نشك في أنَّ المتكلم في مقام البيان أو لا فمثلاً قوله تعالى ﴿ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَیۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا۟ۚ﴾ البقرة:275 هل هو في مقام بيان جميع الخصوصيات أو ليس كذلك ، وقوله ﴿ فَكُلُوا۟ مِمَّاۤ أَمۡسَكۡنَ عَلَیۡكُمۡ ﴾ المائدة :4 هل هو مقام البيان من جهة الحلية والحرمة والطهارة والنجاسة أو ليس كذلك ، فيمكن إفتراض الشك في أنَّ المتكلم في مقام البيان أو لا وإن كان هو الشارع.
أو فرضنا الشك في نصب القرينة إما بإحتمال وجودها إحتمالاً معتداً به وإما بإحتمال قرينية الموجود ، وينفى هذا الشك بأصالة عدم القرينة ، والشك في أنه في مقام البيان ينفى بأصالة عدم الغفلة ، وهناك شك آخر وهو هل أنه في مقام بيان الحكم الواقعي أو في مقام بيان الحكم التقيتي وينفى بأصالة الجد - أصالة الجهة - ، فنحتاج الى التمسك بهذه الأصول اللفظية وهي أصول ظنية لا تورث القطع والنتيجة تتبع أخس المقدمات فكشف الظهور عن مراد الشارع ليس كشفاً قطعياً ، فلا تكون الحجية في هذه الموارد قطعية مستغنية عن إقامة البرهان على حجيتها.
ومن هنا يظهر أنَّ الأقرب في المقام هو القول الثاني الذي يرى أنَّ حجية الظهور ليست قطعية في جميع الموارد وإنما هي ظنية غالباً.
ومن هنا لا سبيل للقطع بأنَّ العمل بالظهور يكون أداءً لحق المولى وعمل بمراسيم العبودية له كما قيل إلا مع إقامة البرهان على ذلك ، ومن هنا يقع الكلام في الدليل على حجية الظهور.
الأمر الثاني: الإستدلال على حجية الظهور بالسيرة العقلائية
وهي أهم الأدلة على حجية الظواهر ، والظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في إنعقاد سيرة العقلاء على العمل بالظواهر في مجال الأغراض التكوينية وتحصيل الواقع بها كما لو أراد فهم كلام مراد شاعر من شعره أو كاتب من كتابه إلا أنَّ ذلك لا علاقة له بالمنجزية والمعذرية.
والكلام يقع في أنَّ عمل العقلاء هل هو قائم على أساس التعبد بمعنى التعبد بمطابقة ظهور كلام المتكلم للواقع فيستكشفون الواقع من خلال الظهور تعبداً فإن كان ذلك كذلك وفرضنا إمضاء هذه السيرة شرعاً فتثبت الحجية التعبدية للظهور ، أو أنَّ عملهم بالظواهر ليس قائماً على التعبد وإنما على أساس نكات أخرى متفرقة من قبيل حصول الإطمئنان بالواقع لا لثبوته تعبداً - بمعنى البناء على ثبوته حتى مع الشك في ثبوته - ، أو لحصول الغفلة فيستكشف به الواقع أو يكون الكشف بالظاهر موافقاً للإحتياط ، فهذه نكات متفرقة تؤدي الى عملهم بالظواهر لاستكشاف الواقع في أغراضهم التكوينية ، وهذا بحث صغروي.
ولو سلَّمنا وقلنا أنَّ عمل العقلاء بالظواهر في أغراضهم التكوينية قائم على أساس التعبد وأنَّ الشارع أمضى هذه السيرة فهل ينفع ذلك في إثبات الحجية التعبدية في مجال الأغراض التشريعية بمعنى إثبات التنجيز والتعذير أم لا، وهذا بحث كبروي.
أما البحث الصغروي فلا معنى لإفتراض التعبد في عمل العقلاء في أغراضهم التكوينية وإن أمكن ذلك في مجال الأغراض التشريعية ، فلو شك المريض في كلام الطبيب الذي يصف له الدواء فلا معنى لإفتراض أخذه بظاهر كلام الطبيب تعبداً لأنه يطلب الواقع ولا ينفعه التعبد في هذا المجال ، فمن الصعب جداً إفتراض التعبد في جميع سِير العقلاء - وليس في الظواهر فقط - في مجال أغراضهم التكوينية لأنَّ الغرض فيها هو الوصول الواقع ، فيتعين أن تكون سيرة العقلاء في هذا المجال قائمة على أساس نكات أخرى كحصول الإطمئنان بمطابقة ظاهر الكلام للواقع أو لحصول الغفلة عن الإحتمالات الأخرى أو يكون ذلك من باب الإحتياط إذا كان الظاهر موافقاً له أو لعدم أهمية الموضوع أصلاً ، ولأجل هذا نجد العقلاء لا يعملون بالظواهر مع الشك والإلتفات وأهمية الموضوع وكونه على خلاف الإحتياط لأنَّ الغرض حينئذٍ هو تحصيل الواقع.
والحاصل: أنه في مجال الأغراض التكوينية حينما يكون المطلوب تحصيل الواقع لا معنى لأن يكون الشيء حجة تعبداً أي مع الشك في تحصيل الواقع به ، فالعمل بالشيء كالظواهر وخبر الثقة ليس لكونه حجة تعبداً بل لأحد هذه النكات المتقدمة.
فالصحيح الى هنا هو أنَّ عمل العقلاء بالظواهر في مجال أغراضهم التكوينية ليس عملاً تعبدياً صرفاً وإنما هو قائم على تحصيل الواقع.