43/06/21
الموضوع: الظن/ حجية السيرة / إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة
كان الكلام في السيرة العقلائية وأنَّ الإمضاء المستكشف بالسكوت هل يتحدد بحدود العمل الخارجي للعقلاء أو أنه يكون للنكتة العقلائية العامة ، وهذا البحث يأتي بعد فرض إمكان التفكيك بين العمل الخارجي وبين النكتة العامة التي صدر عنها العمل كما تقدم.
والكلام يقع تارة على أساس أنَّ دليل الإمضاء هو العقل وأخرى على أساس إستكشاف الإمضاء بالدلالة العرفية وثالثة على أساس إستكشاف الإمضاء بما ذكره المحقق الأصفهاني من أنَّ الشارع هو أحد العقلاء بل رئيسهم فلابد من أن يكون متحد المسلك معهم.
أما بناءً على الدلالة العقلية - وأنه لو لم يمضِ لكان سكوته نقضاً للغرض وهو محال فلابد من ثبوت الإمضاء - فقد يقال بأنَّ هذا الدليل لا يقتضي أكثر من إمضاء العمل الخارجي دون النكتة العامة لأنَّ الممضى هو الواقع الموجود في الخارج فيقال أنَّ الشارع إذا سكتَ عن هذا الواقع فلابد من أن يكون راضياً عنه وإلا كان ناقضاً لغرضه وهو محال فيثبت الإمضاء والرضا، وأما سكوته عن غير الواقع الخارجي أي عن النكتة العامة ولو لم يرضَ بها فلا يكون نقضاً للغرض.
والجواب عنه قد نفترض في بعض الأحيان أنَّ النكتة العامة التي دفعت العقلاء الى هذا العمل الخارجي والبناء على هذه السيرة تكون ممتدة فعلاً الى المجال الشرعي أو تكون في معرض الإمتداد له وعلى كِلا التقديرين يمكن تطبيق الدلالة العقلية لاستكشاف إمضاء هذه النكتة العامة بنفس البيان المذكور في أنّ سكوت الشارع عن العمل الخارجي كاشف عن الإمضاء ، فالنكتة العامة قد تكون في معرض الإمتداد الى المجال الشرعي بمعنى أنَّ العقلاء لأنَّ النكتة التي دعتهم الى العمل الخارجي نكتة عامة فحينئذٍ قد يبنون عليها فيما هو أوسع من العمل الخارجي الذي صدر منهم كما مثلنا في مثال استخراج المعادن فإنَّ النكتة فيه عامة وقد تمتد الى الأغراض الشرعية وهذا كفيل في أن نستكشف من سكوت الشارع عنها رضاه بها بدليل أنه لو لم يرضَ بها ولم يردع عنها فسكوته يكون نقضاً للغرض ، والمهم في المقام إحراز أنَّ النكتة هي في معرض الإمتداد الى الأغراض الشرعية.
وأما إذا كان الكلام على أساس الدلالة العرفية وأنَّ ظاهر حال الشارع هو أنه يرضى بالعمل الصادر من قِبل العقلاء فبناءً عليه وبنفس البيان السابق يكون الإمضاء للنكتة العامة باعتبار أنّها إما ممتدة الى المجال الشرعي فعلاً أو هي في معرض الإمتداد له فعلى الشارع أن يردع لو لم يكن راضيا بها لأنها تُعرِّض أغراضه للخطر فإذا سكت ولم يردع فنستكشف من سكوته الإمضاء لأنَّ سكوته مع عدم رضاه وعدم المانع بحسب الفرض يكون خلاف ظاهر حاله ، فيتعين أن يكون ظاهر حاله هو إمضاء تلك النكتة العامة التي إستند اليها العقلاء في سيرتهم.
ويكون الأمر أوضح إذا قلنا بما إختاره المحقق الأصفهاني من أنَّ الشارع هو أحد العقلاء بل رئيسهم فإنَّ معناه أنه يكون متحد المسلك معهم فكما يُقرهم على العمل الخارجي يُقرهم على النكتة العامة وتكون ثابتة عنده ، هذا إذا تم هذا الوجه.
ومن هنا يظهر أنه لا يبعد أن يقال في السِير العقلائية التي تنشأ من نكات عقلائية عامة لا تتحدد بحدود العمل الخارجي وأنَّ الإمضاء المستكشف من سكوت الشارع وعدم ردعه هو إمضاء للنكات العامة التي انطلقت منها هذه السِير.
ويتبين مما تقدم أنَّ المراد من سيرة المتشرعة هو المواقف الصادرة من المتشرعة والتي لا نعلم إستنادها الى نكات عقلائية عامة ومشتركة بين العقلاء ، فسواء علمنا عدم إستنادها الى النكات العقلائية وهي سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص أو لا نعلم إستنادها الى نكات عقلائية وهي سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم ، ويجمعهما قولنا : (سيرة المتشرعة التي لا نعلم إستنادها الى النكات العقلائية) ، وتوضيح ذلك:
تارة نعلم عدم إستناد سيرة المتشرعة الى نكات عقلائية كعدم المسح بتمام الكف على القدم وكالجهر بالقراءة في صلاة الصبح، فهذه تسمى ( سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص ) ، وأخرى نحتمل إستناد سيرة المتشرعة الى نكات عقلائية ونحتمل أيضاً عدم إستنادها اليها وهذه تسمى ( سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم ) ، وأما السيرة الذي نعلم استنادها الى النكات العقلائية فتخرج عن كونها سيرة متشرعة وتكون سيرة عقلائية فإنَّ المتشرعة من جملة العقلاء فقد تصدر عنهم إعمال إستناداً الى النكات العقلائية.
ونمثل لسيرة المتشرعة بالمعنى الأعم بسيرتهم على العمل بخبر الثقة الذي لا نجزم بعدم إستنادها الى نكات عقلائية فنحتمل فيها ذلك ونحتمل تلقيها من الشارع ، وأما إذا علمنا إستنادها الى نكات عقلائية فكون سيرة عقلائية ولا تدخل في سيرة المتشرعة.
والسيرة المتشرعة إذا علمنا استنادها الى نكات عقلائية لا تكون كاشفة عن الحكم الشرعي كشفاً إنياً بخلاف سيرة المتشرعة المتلقاة من الشارع فإنها تكشف عن الحكم الشرعي كشفاً إنياً، وإنما يحتاج كشفها عن الحكم الشرعي الى ضم مقدمات كما هو الحال في السيرة العقلائية.
وبناءً عليه فسيرة المتشرعة بالمعنى الأعم تحتاج الى إحراز الإمضاء بتوسط عدم الردع غاية الأمر أنَّها لا تحتاج الى ضم المقدمة الشرطية الثانية ( لو ردعَ لوصل ) التي إحتجنا إليها في إستكشاف الإمضاء من السيرة العقلائية لإحراز عدم الردع لأنَّ عدم الوصول محرز بالوجدان فيثبت عدم الردع واقعاً وهو يعني الإمضاء ، ولا حاجة لهذه الشرطية الثانية في سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم لأننا نحرز عدم الردع بمجرد إنعقاد هذه السيرة من قِبل المتشرعة وإلا كيف يمكن الجمع بين إنعقاد سيرة المتشرعة على عملٍ مع الردع الشرعي عنه ، فالردع الشرعي يؤثر في بعض المتشرعة على الأقل ويمنع إنعقاد سيرة للمتشرعة ، فتكفي فيها الشرطية الأولى فحيث لا نحرز انطلاقها من الموقف الشرعي كما هو المفروض فنقول إنَّ الشارع لو لم يرضَ عنها لردع ونحن نحرز عدم الردع بمجرد إنعقاد هذه السيرة فإذن لا ردع عنها واقعاً.
فلكل من السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة بالمعنى الأعم تحتاج الى إحراز عدم الردع غاية الأمر أنَّ سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم لا يكون إحراز عدم الردع فيها بتوسط الشرطية الثانية بخلاف السيرة العقلائية فإن إنقعادها لا يكشف عن عدم الردع فقد يردع الشارع ولا يهتم العقلاء بردعه لأهم ينطلقون من منطلقات عقلائية وهذا لا يمكن فرضه في سيرة المتشرعة، فلابد في السيرة العقلائية من إحراز عدم الردع ولذا لابد من ضميمة الشرطية الثانية فنقول ( لو ردع لوصل إلينا ) وحيث أنه لم يصل فلا ردع واقعاً وهذا يعني الإمضاء فيثبت الإمضاء بتوسط الشرطيتين في السيرة العقلائية.
ومن هنا يتبين: أنَّ سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص لا تحتاج الى أي ضميمة فإنها معلولة للحكم الشرعي فتكشف عنه كشفاً إنياً، وأنَّ سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم تحتاج الى الشرطية الأولى المتقدمة دون الثانية ، وأنَّ السيرة العقلائية تحتاج الى كلتا الشرطيتين حتى نستكشف الإمضاء منها.
والحاصل: أنَّ السيرة التي تكون كاشفة عن الموقف الشرعي كشفاً إنياً إنما هي سيرة المتشرعة بالمعنى الأخص أي التي لا يمكن تفسيرها بغير التلقي من قِبل الشارع وهذه لا تحتاج الى أي مقدمة لإثبات الإمضاء والموقف الشرعي لأنها معلولة له، وأما ما عداها سواءً كان سيرة عقلائية أي يُعلم إستنادها الى النكات والإرتكازات العقلائية أو سيرة متشرعة بالمعنى الأعم التي يحتمل فيها ذلك فهي لا تكشف عن الحكم الشرعي مباشرةً بل بتوسط مقدمات غاية الأمر أنّ السيرة العقلائية تحتاج الى مقدمتين وشرطيتين كما تقدم وأما سيرة المتشرعة بالمعنى الأعم فهي لا تحتاج الى المقدمة الثانية لما عرفتَ من إحراز عدم الردع بنفس انعقاد سيرة المتشرعة إذ لا يمكن إتفاق إنعقاد سيرة للمتشرعة مع الردع الشرعي.
ومن هنا يمكن أن يقال بالاستغناء عن الشرطية الثانية حتى في السيرة العقلائية باعتبار أنها تستلزم سيرة للمتشرعة ولو على أساس نكات عقلائية، وحينئذٍ نقول إنَّ إفتراض إنقعاد سيرة للمتشرعة ولو بنكات عقلائية يتنافى مع الردع الشرعي إذ كيف يتفق المتشرعة على موقف معين مع ردع الشارع عنه! وبذلك نُحرز عدم الردع فلا نحتاج الى المقدمة الثانية حتى في السيرة العقلائية، وهذا يعني الإستغناء عن المقدمة الثانية في جميع هذه السِير.