43/06/20
الموضوع: الظن/ حجية السيرة / إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة
كان الكلام في إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة العقلائية وهل يعتبر في حجيتها إحراز عدم الردع أو يكفي فيها عدم إحراز الردع ، إختار المحقق الأصفهاني الثاني وهو أيضاً ظاهر عبارة المحقق الخراساني ، وإستدل المحقق الأصفهاني عليه بأنَّ الأصل هو أنَّ الشارع متحد المسلك مع العقلاء لأنه منهم بل رئيسهم.
وللمحقق الأصفهاني عبارة ثانية يتضح ما فيها من المناقشة المتقدمة، وحاصل ما يقوله في هذه العبارة هو أنَّ المسألة مبتنية على القول بالملازمة بين حجية شيء عند العقلاء وبين حجيته عند الشارع أو القول بعدمها، بمعنى أنه على القول بالملازمة يثبت عدم توقف حجية السيرة على إحراز عدم الردع بل يكفي فيها عدم إحراز الردع ، وأما إذا أنكرنا الملازمة وأنَّ الشيء قد يكون حجة عند العقلاء لكنه لا يكون حجة عند الشارع وأنه لا دليل على أنَّ الشارع متحد المسلك مع العقلاء فلا يكفي عدم إحراز الردع بل لابد من إحراز عدم الردع.
أقول: يظهر مما تقدم في أنَّ هذا الكلام ليس كما ينبغي فما المقصود بالملازمة في قوله (كل ما يكون حجة عند العقلاء يكون حجة عند الشارع) هل يكون حجة عنده بما هو عاقل أو بما هو شارع ؟
فإن كان المراد أنه يكون حجة عنده بما هو عاقل فالملازمة ثابتة وصحيحة لأنه عاقل فلابد أن يكون متحد المسلك مع العقلاء ولكنه لا ينفع في إثبات الحجية لأنه لا يترتب عليه التنجيز والتعذير فهذا موقف صادر منه بما هو عاقل والمراد هو إثبات الموقف الصادر منه بما هو مولى وشارع بحيث يُعمل مولويته وهذا ما يترتب عليه التنجيز والتعذير ، وأن كان مراده أنه يكون حجة عنده بما شارع فنُنكر دعوى الملازمة.
ما يُستفاد من سيرة المتشرعة
ما يُستفاد من سيرة المتشرعة يختلف بإختلاف الموارد فإذا قامت السيرة على عدم الإلتزام بشيء كالسيرة على عدم الإلتزام بالمسح بتمام الكلف في الوضوء فلا إشكال في دلالتها على عدم وجوب ذلك وإلا لما قامت السيرة على عدم الإلتزام به ، فإن فرضنا وجوب المسح بتمام الكف فلابد من إفتراض نشوء هذه السيرة من اشتباهات وغفلات من قبل المتشرعة إما غفلة عن أصل الفحص أو غفلة إتمام الفحص أو عدم الإهتمام بالفحص أصلاً أو عدم فهم الدليل الدال على وجوب المسح بتمام الكف وهذه كلها منفية بحساب الإحتمالات فيتعين أن تكون السيرة القائمة على عدم الإلتزام بالمسح بتمام الكف دالة على عدم وجوب المسح بتمام الكف.
وإذا قامت السيرة على الإلتزام بشيء فمقتضى القاعدة أنه ليس حراماً ، ولا دلالة للفعل على الوجوب فقد يلتزم المتشرعة بشيء ويكون مستحباً فلا يدل الفعل إلا على الجواز بالمعنى الأعم بمعنى دلالته على عدم الحرمة ، إذ لا يمكن أن نفترض أن تجري سيرة المتشرعة على فعل يُحرمه الشارع بنفس النكتة السابقة ، فلابد من أن يكون التزامهم بشيء كاشفاً عن عدم حرمته شرعاً ، نعم لا يمكن إستكشاف وجوبه لأنَّ الإلتزام بالفعل أعم من الوجوب.
وقد يدل الإلتزام بالفعل على أكثر من الجواز بالمعنى الأعم فقد يثبت الإستحباب أو الوجوب بعنوانه أو الإباحة بعنوانها في بعض الحالات وذلك فيما إذا فرضنا أنَّ التزامهم بالفعل كان بعنوان الوجوب أو بعنوان الإستحباب أو بعنوان الإباحة فيثبت الوجه بذلك ، فإذا إنعقدت سيرتهم على الإتيان بركعتين عند دخول المسجد بعنوان الإستحباب فيكشف ذلك عن استحبابه شرعاً لا عن عدم الحرمة فقط ، وإذا إنعقدت سيرتهم على الإتيان بشيء بعنوان الوجوب فيكشف ذلك عن كونه واجباً عند الشارع ، ولكن هذا إذا أحرزنا الوجه الذي جرت عليه السيرة في هذا العمل وأما مع عدم إحراز الوجه فلا يُستفاد منه أكثر من الجواز بالمعنى الأعم.
وقد نستكشف الإستحباب في غير هذه الحالة وذلك فيما إذا فرضنا أنَّ هذا الفعل ليست وراءه دواعي طبعية تقتضي الإتيان به فإلتزام المتشرعة به يكشف عن مطلوبيته شرعاً وعلى الأقل بنحو الإستحباب وإلا صَعُب تفسير إتفاقهم على الإتيان به مع عدم وجود دوافع طبعية تقتضي ذلك فيتعين أن يكون مطلوباً شرعاً ، فلو فرضنا أنَّ سيرة المتشرعة جرت على الصوم في النصف من شعبان ولا توجد دوافع طبعية تقتضي هذا الفعل فلابد أن يكون فعلهم مستنداً الى الشارع وأمره به والمتيقن من ذلك المطلوبية بنحو الإستحباب ، وهذا في مقابل بعض الأفعال التي لها دوافع طبعية عند البشر فلا يمكن في مثلها إستكشاف الإستحباب من قبيل إطلاق اللحى في زمان المعصومين عليهم السلام فالعادات والتقاليد تشكل دافعاً لإطلاقها فلا ينحصر تفسير سلوكهم في هذه السِير بالمطلوبية الشرعية ، هذا بالنسبة الى سيرة المتشرعة وما يُستفاد منها.
ما يُستفاد من السيرة العقلائية
تبين أننا نستكشف من سكوت الشارع عن السيرة العقلائية الإمضاء والرضا وإلا لردعَ عنها ، والكلام يقع في أنَّ هذا الإمضاء هل هو إمضاء للعمل الخارجي من قِبل العقلاء أو هو إمضاء للنكات العقلائية التي صدر هذا العمل منهم على أساسها ، فقد لا تتمثل النكتة العقلائية بعمل في الخارج وإذا كان الإمضاء للنكتة فيثبت به ما هو أوسع مما يثبت لو كان الإمضاء للعمل الخارجي فقط ، فقد تكون النكتة عامة ولا تختص بالعمل الخارجي ومثاله مسألة استخراج المعادن فالموجود منه في زمان المعصوم هو استخراجه بكميات قليلة وبآلات بسيطة جداً فلو إنعقدت السيرة على التملك بالاستخراج بهذه الكميات وهذه الآلات فنستكشف من سكوت الشارع وعدم ردعه عنها إمضاؤه لها ورضاه بها ولكن الإمضاء هل يتعلق بالعمل الخارجي فنتقيد به وبحدوده أو أنَّ الإمضاء للنكتة التي قام هذا العمل على أساسها وصدر عنها وهي أنَّ الاستخراج مُملِّك وحينئذٍ لا يُفرق بين الكميات القليلة المستخرجة بالآلات البسيطة وبين الكميات الهائلة التي تستخرج بالآلات الحديثة المعقدة ، فالكلام يقع في تحديد ما هو الممضى شرعاً.
وهذا الكلام إنما يمكن طرحه فيما إذا قلنا بإمكان فرض صحة العمل الخارجي وإمضائه من دون صحة وإمضاء النكتة العامة التي يستند إليها العمل فلابد من فرض إمكان التفكيك بينهما، وأما إذا فرضنا عدم إمكان التفكيك بين إمضاء العمل الخارجي وبين إمضاء النكتة فلا معنى لهذا الكلام ، ففي المثال المتقدم يمكن التفكيك بين العمل الخارجي وبين النكتة المستند إليها فقد يمضي الشارع العمل لأنَّ المستخرج كميات قليلة محدودة ولا يمضي النكتة لأن استخراج كميات هائلة بأدوات معقدة قد يكون لها مردود سلبي على اقتصاد البلد ، فإمكان التفكيك لابد من فرضه في محل الكلام.
وبناءً على إمكان التفكيك كما هو الصحيح يقع الكلام عن جواب السؤال المتقدم في أنَّ الإمضاء هل ينصب على العمل الخارجي أم على النكتة العقلائية العامة فنقول:
إنَّ الدليل على إمضاء الشارع للسيرة العقلائية لا يخلو من أمور:
فتارة يكون الدليل هو العقل وتكون الدلالة على الإمضاء دلالة عقلية بملاك إستحالة نقض الغرض ، وأخرى يكون الدليل هو الظهور الحالي العرفي فتكون الدلالة عرفية مستفادة من ظاهر حال الشارع وأنَّ سكوته دال على رضاه وإمضائه بهذا العمل ، وثالثة يكون الإمضاء على أساس أنَّ الشارع هو أحد العقلاء أو رئيس العقلاء كما ذكر المحقق الأصفهاني، فالإمضاء بحسب هذه الوجوه هل ينصب على العمل الخارجي أو ينصب على النكتة العقلائية العامة ؟
أما بناءً على إستكشاف الإمضاء بالدلالة العقلية المبنية على إستحالة نقض الغرض فقد يقال إننا لا نستكشف أكثر من إمضاء العمل الخارجي وذلك باعتبار أنَّ ما يمضيه الشارع هو العمل الواقع في الخارج لأنَّ الذي يمكن دعواه على أساس العقل هو أنَّ سكوت الشارع وعدم ردعه يقتضي إمضاء ما صدر من العقلاء خارجاً كالسكوت عن عمل العقلاء بخبر الثقة وأنه لو لم يمضه لردع عنه فإذا سكت فهذا إمضاء للعمل ولا يمكن إثبات أكثر من ذلك ، ودعوى أنَّ الإمضاء للنكتة العقلائية العامة بحاجة الى دليل وقرينة.