43/06/19
الموضوع: الظن/ حجية السيرة / إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة
كان الكلام في حجية السيرة وأنها هل تتوقف على إحراز عدم الردع أو يكفي في حجيتها عدم إحراز الردع ، والدليل المتقدم يقتضي الأول ولذلك إحتجنا الى الشرطية الثانية التي مفادها إثبات الملازمة الواقعية بين الردع وبين الوصول فإذا إنتفى الوصول بالوجدان إنتفى الردع واقعاً فالذي يُثبت لنا إحراز عدم الردع هو الشرطية الثانية وإلا لو قلنا بالرأي الآخر القائل بكفاية عدم إحراز الردع فلا حاجة الى هذه الشرطية ويُكتفى حينئذٍ بالشرطية الأولى لإثبات الإمضاء ، هذا هو الرأي الأول.
وفي المقابل ذهب المحقق الأصفهاني قده الى كفاية عدم إحراز الردع بالبيان المتقدم ، ويفهم منه أنَّ الشارع له حيثيتان حيثية كونه عاقلاً من العقلاء بل رئيس العقلاء وحيثية كونه مشرعاً، ولا إشكال في أنَّ الشارع بلحاظ الحيثية الأولى يكون متحد المسلك مع العقلاء ، وأما بلحاظ الحيثية الثانية فردعه عن السيرة العقلائية إذا ثبت فسوف نفهم أنَّ الشارع لا يرضى بمسلك العقلاء ويختلف معهم من حيث كونه شارعاً ، وبعبارة أوضح أنَّ مسلكه بما هو عاقل يختلف عن مسلكه بما هو شارع ، ويدعى أنه إذا لم يصل إلينا الردع بما هو شارع فيثبت أنه متحد المسلك مع العقلاء ولا دليل على إختلاف مسلكه بما هو شارع عن مسلكه بما هو عاقل ، وهذا يعني الإمضاء فتثبت حجية السيرة العقلائية من دون توقف على إحراز عدم الردع.
وقد نَسبَ المحقق الأصفهاني قده ذلك الى شيخه المحقق الخراساني قده وعبارته هي:
(..فإنّه يقال : إنّما يكفي في حجّيّته) أي حجية الخبر (بها) أي بالسيرة (عدم ثبوت الردع عنها) أي عدم إحراز الردع (لعدم نهوض ما يصلح لردعها) [1] أي لا يوجد دليل صالح للدرع عن السيرة.
وظاهر هذه العبارة هو ما يقوله المحقق الأصفهاني قده
وقد يُعترض على المحقق الأصفهاني بإعتراضات:
الأول: إنَّ موافقة الشارع بما هو عاقل للسلوك الذي جرى عليه العقلاء لا يعني الإمضاء لأنه منهم وإنما يتحقق الإمضاء فيما إذا صدرت الموافقة من الشارع بما هو شارع فالشك في أصل الإمضاء لا في أنَّ الشارع ردع عن السيرة أو لم يردع عنها ، فالموافقة التي يستكشف منها الإمضاء هي الموافقة الصادرة منه بما هو الشارع ، فهنا خلط بين الحيثيتين فاتحاد الشارع مع العقلاء إنما يكون بما هو عاقل والإمضاء يُستكشف من الموافقة التي تصدر من الشارع بما هو شارع وهي غير محرزة في محل الكلام ، ومن هنا يقال لابد من إحراز عدم الردع من قِبل الشارع حتى نستكشف منه إمضاء السيرة بما هو شارع.
وأُجيب عنه بأنَّ المناط في حجية السيرة ليس هو الإمضاء بمعناه الحرفي حتى نتقيد بمفردة (الإمضاء) ويقال لابد من صدوره من الشارع بما هو شارع ولا معنى لصدور الإمضاء منه بما هو عاقل فإنه يعني أنه يُمضي عمل نفسه وغيره من العقلاء ، بل المهم في الإمضاء هو أنَّ الشارع يوافق العقلاء في عملهم واتحاد مسلكه مع مسلكهم ويمكن أن نقول أنه محرز كما يقول المحقق الأصفهاني قده وإن صدر منه بما هو عاقل وهذا يكفي في إثبات حجية السيرة فما لم يثبت إختلاف مسلكه عن مسلكهم ويبيَّن ذلك فالأصل هو أنه متحد معهم وهو يعني رضاه بهذه السيرة ، فلو فرض أنَّ سيرة العقلاء جرت على العمل بخبر الثقة والعمل بالظواهر والشارع منهم فيثبت أنه يرضى بهذه السيرة وأنه يُثبت الأشياء إعتماداً على خبر الثقة ، نعم لو بَيّن أنه لا يرضى بذلك كما في القياس - على فرض كونه سيرة - فيكون مسلكه يختلف عن مسلك العقلاء فلا يثبت الإمضاء ، وأما مع عدم ثبوت ما يدل على الإختلاف فلابد من أن يكون مسلكه متحداً مع مسلك العقلاء فهو يرضى بالعمل بخبر الثقة لإثبات الأحكام الشرعية ونحوها ، فالحق أنَّ هذا الإعتراض ليس وارداً على المحقق الأصفهاني قده.
الإعتراض الثاني: إنّ كون الشارع من العقلاء بل رئيسهم لا يقتضي أن يكون موافقاً لهم في جميع سِيرهم بل لعل كونه رئيس العقلاء مميزاً له عن العقلاء إما باعتبار أن سِير العقلاء لا تنشأ دائماً من نكات عقلائية صرفة بحيث يشترك فيها الجميع بنحو لا يمكن فرض التخلف فيها بل هي تتأثر بالعادات والتقاليد والثقافات بل بعض السِير ينشأ من ذلك وهذا ما لا يمكن فرضه في حق الشارع ولا يكون متحد المسلك معهم ، وإما باعتبار أنَّ عقله أتم وأكمل من العقلاء وهذا يستلزم أن يختار الموقف الأتم والأصلح غير ما يختاره العقلاء ، فليس بالضرورة في كل سيرة أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء فيها.
الإعتراض الثالث: سلَّمنا أنَّ الشارع بما هو عاقل متحد المسلك مع العقلاء في جميع السِيَر لكن نقول أن الإتحاد معهم تارة يوجب القطع بأنه بما هو شارع لا يخالف العقلاء فكأنّ إتحاده مسلكه بما هو عاقل معهم يمنع من أن يخالف العقلاء بما هو شارع ، لكنَّ هذا خروج عن محل الكلام لأنه يعني القطع بعدم صدور الردع بما هو شارع ومحل الكلام هو مع فرض إمكان صدور الردع من قِبل الشارع ، والفرض المتقدم يُنتج الى عدم إمكان صدور الردع من قبل الشارع.
وأخرى لا يوجب القطع بأنه لا يخالفهم بما هو شارع ، فنحتمل أنه يخالفهم بما هو شارع وعليه نقول:
نحن نحرز موافقة الشارع مع العقلاء بما هو عاقل و نشكُ في موافقة لهم بما هو شارع ، ولكن إحراز الموافقة لهم بما هو عاقل لا ينفع في إثبات التنجيز والتعذير وإنما يثبتان بالموقف الصادر منه بما هو شارع لا بما هو عاقل ، والموقف الصادر منه بما هو عاقل يخلو من إعمال المولوية والأحكام الصادرة منه تكون إحكاماً إرشادية لا يترتب عليها التنجيز والتعذير ولا إستحقاق الثواب والعقاب ، فلا فائدة في إحراز إتحاد مسلك الشارع مع العقلاء بما هو عاقل ، وإنما الفائدة في إحراز الموقف الصادر منه بما هو شارع وهذا محل شك في محل الكلام بحسب الفرض.
والحاصل أنَّ المفروض في محل الكلام إمكان صدور الردع من الشارع عن السيرة العقلائية وإلا فلا داعي لهذا البحث للقطع بعدم الردع لعدم إمكانه وحينئذٍ نقول إنَّ إمكان صدور الردع من الشارع يعني إحتمال إختلاف موقفه بما هو شارع عن موقفه بما هو عاقل وهذا معناه هو أنَّ ما نحرزه هو موقف الشارع بما هو عاقل وأما موقفه بما هو شارع فهو غير محرز لنا ومن الواضح أنَّ المهم هو إحراز الثاني فإنه الذي يترتب عليه التنجيز والتعذير لوضوح أنَّ الموقف المولوي والخطاب الصادر من الشارع بما هو مولى وشارع هو الذي يترتب عليه التنجيز والتعذير دون الموقف غير المولوي نظير الأوامر الإرشادية والإمتحانية ونحوها مما ليس فيه إعمال المولوية.