43/06/15
الموضوع: الظن/ حجية السيرة / إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة
الكلام يقع أولاً في سيرة المتشرعة والمقصود بها سيرة أصحاب الأئمة الذين عاصروهم وتمكنوا من أخذ الأحكام منهم حساً أو بطريق قريب من الحس، والظاهر منهم أنَّ عنوان المتشرعة لا يشمل علماء عصر الغيبة الذين لا يتمكنون من أخذ الأحكام حساً عن الائمة عليهم السلام والغالب في الأحكام التي يلتزمون بها أنها ناشئة من إجتهاد وإعمال النظر فهي أمور حدسية لا حسية، فالكلام عن سيرة المتشرعة بهذا المعنى.
ودلالة هذه السيرة على الحكم الشرعي وعلى تلقيهم الحكم من الشارع أشبه بكشف العلول عن العلة لأنَّ هذه السيرة مأخوذة من الشارع ، فإذا فرضنا إنعقاد سيرتهم على الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة فلابد أنهم أخذوا ذلك من الأئمة عليهم السلام وأنَّ المعصوم هو الذي يرى هذا الرأي فانعقدت السيرة عليه ، ولا بديل لتفسير هذه السيرة غير ذلك، ولا يمكن فرض إنعقادها على أساس نكات عقلائية لوضوح أنَّ مورد سيرة المتشرعة هو الأمور الشرعية كما في المثال وليست كالسيرة على أنَّ الحيازة مملكة أو أنَّ الإقرار على النفس نافذ مما هو ناشئ من نكات عقلائية يشترك فيها الجميع ، فحينئذٍ إما أن نفترض رضا الشارع بالعمل الصادر من المتشرعة فيثبت المطلوب وهو أنها مستندة الى رأي المعصوم فيثبت بذلك الحكم الشرعي وهو جواز الجهر في ظهر الجمعة، أو نفترض أن لا يرضى بذلك وقد أعلن عدم رضاه فحينئذٍ كيف نفسر إتفاق المتشرعة على العمل بما لا يُرضي الشارع ؟
قد نفترض غفلتهم عن أصل الفحص أو التسامح فيه أو أنهم فحصوا ولكن لم يفهموا عدم الرضا الصادر من المعصوم عليه السلام عن هذا العمل أو نحو ذلك ، وكل هذه الإحتمالات منفية بالأصول العقلائية أولاً كأصلة عدم الغفلة وأنَّ هذا لا يمكن فرضه بالنسبة الى جميع المتشرعية وثانياً.
وبعبارة أوضح أنَّ إفتراض كونهم متشرعة وأنَّ المراد منه هو جميع أو معظم المتشرعة وليس أفراداً منهم وأنهم يعملون بعمل شرعي يتعين أن يكون ذلك مأخوذاً من الشارع ، ولذا نقول أنَّ الكشف في المقام من باب كشف المعلول عن العلة بمعنى أنَّ علة هذا السلوك هو رأي الشارع.
وأما السيرة العقلائية فالبيان السابق في سيرة المتشرعة لا يجري فيها لوضوح أنَّ سيرتهم لا ينحصر أن يكون مدركها هو الشارع بل عادة يكون مدركها هو النكات العقلائية التي يدركها سائر العقلاء ، وحتى لو صدرت هذه السيرة من المتشرعة فإنها تصدر منهم بما هم عقلاء لا بما هم متشرعة، ومن ذلك السيرة على أنَّ من حاز ملك ونفوذ إقرار الإنسان على نفسه ، ومن هنا لا تكون هذه السيرة كاشفة عن الحكم الشرعي مباشرة كما هو الحال في سيرة المتشرعة وإن كشفتْ عن شيء فهي تكشف عن النكات العقلائية التي نشأت منها، ومن هنا يكون إستكشاف الحكم الشرعي من هذه السيرة بحاجة الى تتميم وهو يتكون من مقدمتين شرطيتين:
المقدمة الأولى: إنَّ الشارع لو لم يرضَ عن هذه السيرة لردع عنها، وهذه الشرطية مرجعها الى الملازمة بين عدم الرضا بالسيرة العقلائية وبين الردع عنها ، وبتعبير آخر إنَّ الملازمة بين عدم الردع وبين الإمضاء ، فلو لم يرضَ لردع وحيث لم يردع فهو راضٍ.
المقدمة الثانية: لو ردعَ الشارع عن السيرة العقلائية لوصل ردعه إلينا.
فإذا تمت هاتان المقدمتان نقول: هناك سيرة عقلائية لم يصل إلينا الردع عنها من قِبل الشارع فهو لم يردع عنها ومعه يثبت الإمضاء للملازمة بينهما فيثبت الحكم الشرعي بذلك.
فلابد من إثبات كِلا الشرطيتين، أما الشرطية الأولى وهي الملازمة بين عدم الرضا ولزوم الردع ، فقد يُستدل لها بدلالة عقلية والمقصود بها الإستدلال عليها بملاك إستحالة نقض الغرض أو إستحالة تخلف المعصوم عن تكليفه لأنَّ السيرة لو كانت مخالفة للشارع فلابد من أن يُبين ذلك لأنَّ وظيفته هي بيان الأحكام الشرعية للناس فإذا سكت يكون سكوته نقضاً لغرضه بوصفه مشرعاً ومكلِّفاً - لا مكلَّفاً - وهو حامي الشريعة ، فكيف يمكن إفتراض إطباق العقلاء على شيء ويكون في معرض الإمتداد الى أغراض الشارع وهو لا يرضى به ويسكت عنه ! فلابد أن يُبين المعصوم ذلك وإلا كان ناقضاً للغرض وهو محال.
بل يمكن أن يقال من جهة أخرى أنَّ هذا تنصل من المسؤولية وتهرب من التكليف وهذا محال بالنسبة الى المعصوم عليه السلام، فسكوت الشارع إما هو نقض للغرض أو تنصل من المسؤولية الملقاة على عاتقه وكلاهما مستحيل في حقه، فلابد من الردع عن هذه السيرة ، فتثبت الملازمة بين عدم الرضا عن السيرة وبين لزوم الردع عنها.
وهذا الطريق العقلي يُشترط فيه أمران:
الأول: أن تشكل السيرة خطراً على أغراض الشارع وذلك إذا كانت السيرة ممتدة فعلاً الى المجال الشرعي أو كانت في معرض الإمتداد إليه، فلو فرضنا إنعقاد السيرة العقلائية على العمل بخبر الثقة فهي إما ممتدة فعلاً الى المجال الشرعي وأما هي في معرض الإمتداد إليه وعلى التقديرين هي تُعرِّض أغراض الشارع للخطر.
وأما إذا إفترضنا أنها بمعزل عن أغراض الشارع فلا يمكن أن نستكشف الإمضاء من سكوته فلعله سكت عنها لأنَّ أغراضه في مأمن من هذه السيرة.
الشرط الثاني: أن يكون الشارع قادراً على الردع بمعنى عدم وجود مانع يمنع من الردع كالتقية فسكوته مع وجود المانع لا يكون كاشفاً عن الإمضاء، فلابد من إحراز عدم وجود مانع يمنع من الردع.
فالشرطية الأولى إنما تثبت بهذين الشرطين وهذه دلالة عقلية لإثباتها.
وهناك طريق آخر لإثباتها وهو التمسك بدلالة عرفية وذلك بأن يقال إنَّ السكوت في حد نفسه فيه دلالة عرفية على الإمضاء من دون ضم لزوم نقض الغرض أو فرض التنصل من المسؤولية، فكأنَّ هناك ظهور حالي يُستكشف منه الإمضاء ، ولا فرق في الحجية بين الظهور الحالي والظهور اللفظي فكل منهما حجة ومشمول لأدلة حجية الظهور ، وإذا تمت هذه الدلالة العرفية فنقول إنَّ ظاهر حال المعصوم عليه السلام هو أنه يرضى بهذه السيرة المنعقدة في زمانه ويثبت بذلك الحكم الشرعي.