الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/06/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية السيرة / طرق إثبات المعاصرة

كان الكلام في الطريق الثاني من طرق إثبات معاصرة السيرة للمعصوم عليه السلام وهو الإعتماد على النقل التاريخي أو الروائي، وقلنا لابد من إفتراض حجية هذا النقل حتى يمكن الإعتماد عليه لإثبات المعاصرة فإذا فرضنا أنَّ حجيته تثبت بالسيرة فلا يصح الإستدلال به للزوم الدور فلابد من إفتراض ثبوت حجية هذا النقل بقطع النظر عن السيرة فإذا كان النقل يتمثل بخبر الثقة فلابد من إفتراض ثبوت حجيته بدليل آخر غير السيرة.

وقد يُشكل على ذلك بإنّ هذا يتوقف على الإلتزام بحجية خبر الواحد في الموضوعات وأما إذا أنكرنا ذلك كما هو مبنى كثير من المحققين فيشكل الإعتماد عليه لأنَّه ليس نقلاً للحكم الشرعي فلا تشمله أدلة الحجية.

وذكرنا محاولة للتخلص من هذا الإشكال بالرغم من الإلتزام باختصاص أدلة حجية الخبر بنقل الأحكام ، وهذه المحاولة تفترض الفرق بين نقل موضوع له أثر شرعي كعدالة زيد التي يترتب علها قبول شهادته وجواز الصلاة خلفه وخمرية السائل التي تترتب علها حرمة الشرب فيرد فيها الإشكال لأنها من الموضوعات والخبر ليس حجة في نقلها وبالتالي لا يمكن إثبات الحكم ، وبين نقل موضوع ليس له أثر شرعي وإنما هناك ملازمة بينه وبين الحكم الشرعي فيدعى في هذه الحالة بإمكان التمسك بخبر الثقة وإن بنينا على عدم حجيته نقل الموضوعات بدعوى أنَّ هذا الخبر الذي ينقل الموضوع بالمطابقة ينقل لازمه بالإلتزام فإذا كان لازم الموضوع هو الحكم الشرعي فالخبر ينقله إلينا بالدلالة الإلتزامية ، وإذا بنينا على أنَّ الخبر يكون حجة في كِلا مدلوليه المطابقي والالتزامي فلا مانع حينئذٍ من التمسك به لإثبات الحكم الملازم لذلك الموضوع.

فكأنَّ المدعى في هذه المحاولة هو إنَّ خبر الثقة ينقل لنا المعاصرة ويُدعى أنَّ هناك ملازمة بين وجود السيرة في زمان المعصوم وبين الحكم الشرعي بنحو لا يمكن التفكيك بينهما كوجود السيرة في ذلك الزمان على التملك بالحيازة وبين كون الحيازة أحدى المملكات شرعاً ، فالخبر الذي ينقل السيرة بالمطابقة ينقل الحكم الشرعي بالإلتزام ويكون حجة فيه، فيمكن الإستناد إليه لإثبات الحكم الشرعي بالرغم من الإلتزام بإختصاص أدلة الحجية بنقل الأحكام.

وهذه من قبيل المحاولة التي تذكر في علم الرجال في بحث حجية قول الرجالي فهناك وجوه عديدة ذكرت لإثبات حجيته، منها هو البناء حجية خبر الثقة في الموضوعات والرجالي ينقل لنا وثاقة الراوي وهو موضوع فيكون قوله حجة فيه.

ومنها إمكان إثبات حجية قول الرجالي في نقل الوثاقة حتى مع الإلتزام بإختصاص أدلة الحجية بنقل الأحكام ببيان يشبه البيان المتقدم، فإنَّ هناك ملازمة بين نقل الرجالي لوثاقة الرواي وبين ثبوت الأحكام الشرعية التي ينقلها هذا الراوي الثقة ، فإذا وثَّق الرجالي هذا الراوي فقد أثبت بالملازمة الحكم الشرعي الذي نقله ، فقول الرجالي ينقل وثاقة الراوي بالمطابقة وينقل الحكم الشرعي الذي يرويه بالإلتزام ، وهذا في الحقيقة نقل للحكم الشرعي غايته أنه مدلول إلتزامي للخبر ولا يُفرق بين المدلول المطابقي والالتزامي للخبر في الحجية.

وقد تعرضنا لهذه المحاولة في بحوث علم الرجال ونقلناها عن السيد الحكيم قده في المستمسك وقد إختار هذا الرأي وبنى على حجية قول الرجالي على هذا الأساس.

والمهم في مناقشة هذا الوجه هو أنَّ الأدلة الدالة على حجية خبر الواحد فيها عناوين مختلفة وألسنة متعددة وبعضها يثبت الحجية لما (أداه) الثقة (فما أديا إليك عني فعني يؤديان) فلابد من التقيُّد به، وبعضها ما (نقله) الثقة، وبعضها خبر الثقة ، والمهم في المقام هو أنَّ أداء الثقة وإخباره هل يشمل المدلول الالتزامي كما يشمل المدلول المطابقي وذلك لتحديد ما تشمله أدلة الحجية ، فإذا نقل الثقة كلاماً فهل نقتصر على مدلوله المطابقي أم نأخذ بالمدلول الإلتزامي لكلامه أيضاً ؟

والجواب: وإنما يصدق أنه (أداه إلي ، نقله لي ، أخبرني به) على المدلول الإلتزامي إذا كانت الملازمة بيّنة فيكون حجة ، وأما إذا لم تكن الملازمة بيّنة فلا يصدق الأداء ولا نقل ولا الإخبار، بل قد لا يكون المخبر ملتفتاً الى هذه الملازمة أصلاً ، والملازمة بين نقل الوثاقة وبين الحكم الشرعي الذي يخبر عنه الرواي ليست بينة ، كما أنَّ الملازمة بين نقل المعاصرة وبين الحكم الشرعي الذي قامت عليه السيرة ليست بينة أيضاً ، فلا يصدق على نقل المعاصرة أنه نقل وإخبار وأداء للحكم الشرعي حتى يكون مشمولاً لأدلة حجية خبر الثقة في نقل الأحكام.

هذا هو الجواب عن هذه المحاولة.

ومن هنا يظهر بأنَّ الإشكال المتقدم وارد، بمعنى أنَّ الإعتماد على طريق النقل لإثبات المعاصرة لابد فيه من البناء على حجية خبر الثقة في الموضوعات حتى يصح الإستناد عليه.

الطريق الثالث: ويتقوم بثلاثة شروط:

أولاً أن نفترض أنَّ المسألة التي نريد إثبات السيرة فيها من المسائل الإبتلائية عامة البلوى.

وثانياً أنَّ السلوك الذي يراد إثباته بانعقاد السيرة عليه لا يكون خلافه من الواضحات، فالسيرة على العمل بخبر الثقة خلافها - وهو عدم العمل بخبر الثقة - ليس من الواضحات.

وثالثاً أن نفترض عدم تكثر السؤال والجواب حول هذا الموضوع ، ويُستكشف ذلك من الروايات فإن لم نجده مطروحاً فيها فهذا يعني عدم تكثر السؤال عنه وإلا لوصل شيء من هذه الأسئلة والأجوبة عادة.

فإذا تمت هذه الشروط الثلاثة يقال: إنَّ هذا السلوك كان ثابتاً في زمان المعصوم وليس حادثاً بعده وإلا لزم إما أن يكون خلافه من الواضحات أو أن يكثر السؤال والجواب عنه ، وتطبيق ذلك على حجية خبر الثقة:

أما كونه عام البلوى فواضح لأنّ الجميع يُبتلى به ويعتمد على أخبار الثقات، وخلافه - وهو عدم حجية خبر الثقة - ليس من الأمور الواضحة بنحو يبني عليه العقلاء فيسكت الناس عن السؤال عنه ، وأيضاً لم يكثر السؤال والجواب عن خبر الثقة بل وصل إلينا ما يدل على حجية خبر الثقة، ومن هنا نستكشف أنَّ السيرة على العمل بخبر الثقة كانت منعقدة في زمان المعصوم.

الطريق الرابع: أن يقال إن عدم إنعقاد السيرة على ما نريد إثباته لابد أن يكون له بديل وهذا البديل يمثل ظاهرة غريبة عجيبة لو كانت لاشتهر نقلها كسائر الظواهر الغريبة، وحيث أنها لم تنقل فما ندعي إنعقاد السيرة عليه ليس له بديل فيثبت إنعقاد السيرة عليه، ويمثل له بدعوى قيام السيرة على العمل بالظواهر ، فيقال لو لم تنعقد السيرة على العمل بالظواهر في مقام التخاطب لكان له بديل ، وإذا كان هناك بديل- وهو الإعتماد على العلم واليقين والجزم - فهو يشكل ظاهرة غريبة ولو وجدت لنقلت إلينا فإذا لم تنقل ولم يصل منها ثبت إنعقاد السيرة على فهم مرادات المتكلم من خلال ظهور كلامه.

الطريق الخامس: إثبات السيرة المعاصرة بالاستقراء الناقص للمجتمعات الكثيرة في أمكنة متعددة وأزمنة مختلفة، فإذا ثبت وجودها مع إختلاف الأزمنة والأمكنة والثقافات فيمكن إستكشاف وجود السيرة في زمان المعصوم بنحو يوجب الإطمئنان.

هذه خمسة طرق في إثبات المعاصرة.

والكلام المهم في السيرة هو في كيفية إستكشاف الحكم الشرعي منها، ولنفترض الفراغ عن إثبات معاصرة السيرة لزمان المعصوم عليه السلام ، فالكلام يقع في كيفية إستكشاف الحكم الشرعي منها وإثباته على نحو الجزم واليقين.

وهذا الاستكشاف يختلف في السيرة العقلائية عنه في سيرة المتشرعة، والمقصود من المتشرعة هم خصوص المعاصرين للمعصومين عليهم السلام ممن تشرف بمخاطبتهم أو ممن عاصرهم وأخذ عنهم الأحكام ولو بالوسائط، فعنوان المتشرعة في محل الكلام لا يشمل علماء عصر الغيبة فضلاً عن غيرهم.