43/06/13
الموضوع: الظن/ حجية السيرة/
كان الكلام في السيرة وقلنا أنه يقع في مقامين المقام الأول في أقسام السيرة والمقام الثاني في كيفية إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة.
أما المقام الأول فتنقسم السيرة الى قسمين: السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة
المقصود بالسيرة العقلائية هو إتفاق العقلاء على سلوك وعمل معين بنحو يكون الدافع نحوه هو كونهم عقلاء، فسلوكهم لابد له من سبب ومبرر فلابد من أن تكون هناك قضية معينة يؤمنون بها وتبرر لهم هذا السلوك العام من قبيل أنَّ هذا السلوك يُنظم شؤونهم ومعاشهم.
والمقصود بسيرة المتشرعة هو إتفاقهم على شيء بما هم متشرعة وأما إتفاقهم على شيء بما هم عقلاء فهو من السيرة العقلائية، وعلى هذا الأساس يكون إستكشاف الحكم الشرعي من هذه السيرة أوضح وأقصر بمعنى أنه لا يحتاج الى إثبات الإمضاء والتقرير كما هو الحال في السيرة العقلائية ، وذلك لأنَّ عمل المتشرعة بما هم متشرعة معلول لرأي الشارع.
أما المقام الثاني وهو إستكشاف الحكم الشرعي من السيرة فيتوقف على شرطين:
الشرط الأول: معاصرة السيرة للمعصومين عليهم السلام وأما السيرة المتأخرة فلا تنفع في إستكشاف الحكم الشرعي.
الشرط الثاني: أن تكون هناك ملازمة بين السيرة في زمان المعصوم وبين الحكم الشرعي.
والظاهر أنه لابد من هذين الشرطين في كلٍ من السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة لاستكشاف الحكم الشرعي، أما إثبات المعاصرة للمعصوم عليه السلام فالظاهر أنَّ إشتراطه باعتبار أنَّ الملازمة بين السيرة وبين الحكم الشرعي لا تتم إلا في صورة المعاصرة ، أما سيرة المتشرعة فلأنها معلولة للحكم الشرعي فتدل عليه ويثبت بها الحكم الشرعي ولكن بشرط المعاصرة وأما السيرة المتأخرة عن المعصوم فلا تدل عليه لأنها ليست معلولة للحكم الشرعي فإنها قد تنشأ من أشياء أخرى كفتاوى المجتهدين بل المجتهد الواحد إذا كان المرجع الأعلى فهذه السيرة تكشف عن فتوى المجتهد لا عن الحكم الشرعي، هذا في السيرة المتشرعة.
وكذا السيرة العقلائية فإنما تكون بينها وبين الحكم الشرعي ملازمة عندما تكون معاصرة للمعصوم عليه السلام فإنها تجري بمرأى ومسمع منه وحيث أنه لم يردع عنها مع التمكن من الردع لو لم يرضَ بها فنستكشف من سكوته الإمضاء والتقرير فتكون كاشفة عن الرأي الشرعي، وأما السيرة العقلائية غير المعاصرة له والحادثة بعده فلا يمكن القول أنه لو لم يرضَ بها لردع عنها فلا تكون كاشفة عن الرأي الشرعي، فمن هنا يظهر أنَّ المعاصرة لابد منها في كِلا السيرتين.
وبناءً على الشرط الأول يُطرح السؤال عن كيفية إثبات المعاصرة للمعصوم مع أنَّ غاية ما يمكن قوله هو أنّها موجودة في زماننا على تقدير وجودها، وكذا السيرة العقلائية فما يثبت لنا هو أنَّ العقلاء يرتبون آثار الملكية على الحيازة مثلاً، فكيف يمكن إثبات المعاصرة ؟
ومن هنا ذكروا بعض الطرق لإثبات معاصرة السيرة الموجودة في زماننا للمعصومين عليهم السلام:
الطريق الأول: أن يدعى استبعاد تحول السيرة على سلوك الى ضده في هذا الزمان الطويل، فيتعين أن تكون هذه السيرة الموجودة في زماننا موجودةً في زمان المعصومين عليهم السلام.
وبعبارة أخرى أنَّ تحول السيرة من شيء الى ضده أو الى نقيضه يُشكل ظاهرة غريبة لو حدثت لنُقلت إلينا وحيث لم تُنقل فيمكن استبعاد هذا التحول فتثبت المعاصرة.
ويمكن التأمل في هذا الطريق باعتبار أنَّ العقلاء وإن كانوا يشتركون في أمور كثيرة ولكن قد يختلفون في أمور أخرى، فالسيرة العقلائية الصادرة على أساس النكات المشتركة بين جميع العقلاء السابقين واللاحقين فمثل هذه السيرة يُستبعد فيها التحول والانقلاب، ولكن يمكن إفتراض نشوء السيرة على أساس ما به الإمتياز والإختلاف بين العقلاء فنجد أنَّ العقلاء في الزمان السابق لم تنعقد سيرتهم على هذا السلوك مع إنقاد سيرة المتأخرين عليه، وبعبارة أخرى السِيَر العقلائية كلها ترجع الى تنظيم الأمور ومنع الفوضى فيما بينهم فيتفقون على شيء معين لتنظيم أمورهم ومن الواضح أنَّ ما يحفظ به النظام وتدفع به الفوضى يمكن أن يختلف من زمان الى زمان آخر، ومن ذلك إتفاق العقلاء في الزمان الحاضر على نُظم معينة من الحكومات إدراكاً منهم أنَّ النظام لا يُحفظ إلا بها مع أنَّ العقلاء في الزمان السابق لا تكون لهم هذه السيرة وما ذلك إلا لأنها نشأت من نكات تختلف من زمان لآخر وفي مثل هذه السِيَر لا يُستبعد التحول بل يمكن فرضه.
مضافاً الى أنَّ هذا التحول والتغيير إنما يُستبعد في الصورة الأولى - الناشئة على أساس ما به الإتفاق - إذا حدث دفعة وأما إذا حدث تدريجاً وببطء مناسب لمرور الزمان فلا يكون مستبعداً أيضاً.
الطريق الثاني: الإعتماد على النقل التاريخي فقد يُفهم منه ومن بعض الروايات أنَّ السيرة المنعقدة اليوم كانت موجودة في الزمان السابق ومن ذلك التعامل بالنقد الأجنبي الذي يظهر من بعض روايات الزكاة، ومنه أيضاً السيرة على استخراج بعض المعادن كالعقيق والملح، بل حتى السيرة على العمل بخبر الثقة بين الأصحاب التي يدعيها الشيخ الطوسي في العُدة.
وهذا إنما يتم وتثبت المعاصرة إذا إفترضنا أنَّ النقل التاريخي كان قطعياً يفيد اليقين أو الإطمئنان على الأقل وأما إذا لم يكن بهذه المثابة كما إذا ثبت بخبر الثقة فهو وإن كان حجة تعبداً إلا أنه لا يمكن الإعتماد عليه في إثبات المعاصرة إلا بشرط وهو أن لا تثبتْ حجيته بالسيرة وإلا لزم الدور، فإذا كان الدليل على حجية الخبر هو الأدلة اللفظية من الآيات والروايات فحينئذٍ يمكن الإستدلال به على المعاصرة.
واُشكل عليه بأن الإعتماد على خبر الثقة لإثبات المعاصرة حتى مع إثبات حجيته بغير السيرة يتوقف على الإلتزام بحجية خبر الواحد في الموضوعات، وأما إذا قلنا أنه لا يكون حجة إلا في الأحكام فلا يمكن ذلك لأنَّ المعاصرة المطلوب إثباتها من الموضوعات لا من الأحكام ، فمن لا يلتزم بأنَّ الخبر حجة في الموضوعات فلا يمكنه الإعتماد على هذا النقل الثابت بخبر الثقة ، نعم من لا يلتزم بذلك ويرى أنَّ خبر الثقة حجة في الموضوعات والأحكام معاً يمكنه الإعتماد على هذا المسلك.
وهناك محاولة لتجاوز هذا الإشكال وإثبات إمكان الإعتماد على خبر الثقة لإثبات المعاصرة على كِلا القولين وذلك بأن يقال أنَّ الخبر الذي ينقل المعاصرة لا نريد إثبات الموضوع به وإنما إثبات الحكم ولكن بالإلتزام ، بمعنى أنَّ الخبر الذي ينقل المعاصرة بالمطابقة ينقل لنا الحكم بالإلتزام بإعتبار الملازمة بين المعاصرة وبين الحكم الشرعي والمفروض أنّ أدلة حجية الخبر لا تُفرِّق بين ما ينقله الخبر بالمطابقة وما ينقله بالإلتزام ، فيمكن الإستناد إليه في إثبات المعاصرة.