الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/06/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ حجية السيرة/

كان الكلام في الدليل الرابع على أنَّ الأصل عند الشك في الحجية هو عدم الحجية وهو عبارة عن التمسك بالأدلة الناهية عن إتباع الظن والعمل به، وقلنا لا مانع من التمسك بهذه العمومات وأنَّ ما ذُكر من أنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص غير تام، وتبين من خلال ما تقدم أنّ الشك يرجع في الحقيقة الى الشك في التخصيص الزائد لأنَّ كل دليل دال على حجية ظن من الظنون يُخرجه من العمومات المتقدمة إخراجاً حكمياً فيكون مخصصاً لها فإذا شككنا في قيام الدليل على حجية ظن مال فهذا الشك مرجعه الى الشك في التخصيص الزائد ولا إشكال عندهم في إمكان التمسك بالعام عند الشك في التخصيص الزائد.

ومن هنا يظهر أنَّ الدليل الرابع تام ويمكن الإستدلال به على تأسيس الأصل في محل الكلام.

نعم هناك إشكال في التمسك بالعمومات الناهية عن العمل بالظن من الكتاب والسنة - وخصوصاً من الكتاب - من جهة أخرى وهي دعوى أنَّ هذه العمومات مختصة بأصول الدين ولا تشمل الفروع ، ويُستدل عليها تارة بأنّ سياق الآيات يقتضي ذلك وأخرى بأنَّ القدر المتيقن منها هو ذلك، وعليه لا يمكن الإستدلال بها في محل الكلام لأنها حينئذٍ تنهى عن العمل بالظن لإثبات العقيدة وليس فيها دلالة على النهي عن العمل بالظن في فرع من الفروع الفقهية فلا يصح التمسك بها.

أما الإستدلال على إختصاصها بالاعتقاديات بأنه القدر المتيقن منها فلعله مبني على أنَّ القدر المتيقن في مقام التخاطب يمنع من الإطلاق وهو ما إلتزم به المحقق الخراساني، بخلاف القدر المتيقن من الخارج الذي لا يمنع من إطلاق الدليل، فكأنَّ الاعتقاديات هي القدر المتيقن في مقام التخاطب فيمنع ذلك من بالإطلاق.

فيلاحظ عليه: إنَّ دعوى أنَّ الاعتقاديات هي القدر المتيقن في مقام التخاطب غير واضحة، وإنما القدر المتيقن في مقام التخاطب من قبيل ما لو سأل عن الغنم السائمة فإجابه في الغنم زكاة من دون تقييد بالسائمة فهنا يقال أنّ لهذا المطلق قدر متيقن في مقام التخاطب وهي الغنم السائمة ويكون ذلك مانعاً من التمسك بالإطلاق بحسب هذا الرأي، ولكن كون الاعتقاديات هي القدر المتيقن في مقام التخاطب من الأدلة الناهية عن العمل بالظن هو أول الكلام ، نعم هو القدر المتيقن من الخارج إذ نعلم من الخارج أنَّ الاعتقاديات أهم عند الشارع من المسائل الفرعية الجزئية فيكون الأهم هو القدر المتيقن ولكنه من الخارج ولا يمنع من التمسك بالإطلاق ، كما لو قال: جئني بماء وكان القدر المتيقن هو ماء الفرات فلا يمنع ذلك من التمسك بالإطلاق.

فمثلاً الآية الشريفة ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ﴾ الإسراء:36 واردة في سياق النهي عن قتل الأولاد والنهي عن الزنا والقتل وأكل مال اليتيم ووجوب الوفاء بالعهد ووجوب الوفاء بالكيل فلا يمكن القول أنَّ القدر المتيقن منها هو النهي عن العمل بالظن في أصول الدين فإن كان هو القدر المتيقن فمن الخارج للنكتة المتقدمة وهي أنَّ إهتمام الشارع بالاعتقاديات أكثر من إهتمامه بالمسائل الفرعية فلو نهى عن العمل بالظن يكون المتيقن منه هو النهي عن العمل به في أصول الدين ويكون إحتمال العكس غير وارد فالنهي إما عام يشمل الأصول والفروع أو يختص بأصول الدين وأما أن يكون النهي مختصاً بفروع الدين ويجوز العمل بالظن في أصول الدين فغير وارد ولكنه يُشَكل قدراً متيقناً من الخارج ولا يمنع من التمسك بالإطلاق حتى عند المحقق الخراساني.

وأما الإستدلال بالسياق وأنه يقتضي الإختصاص بأصول الدين فهو إن تم في بعض الآيات ولكنه لا يعني الإختصاص بها ولا يكون إلا مورداً لها والمورد لا يُخصص الوارد فالآية ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡــًٔاۚ﴾ يونس:36 مطلقةٌ إذا طُبقت على أصول الدين فهي مورد لها ولا يكون المورد مخصصاً لها فالاستدلال بالسياق على الإختصاص ليس واضحاً.

نعم هناك شيء آخر قد يُذكر لإثبات الإختصاص وليس قائماً على أساس القدر المتيقن في مقام التخاطب ولا على أساس السياق وإنما على أساس أنَّ مفاد الآية المتقدمة هو أنَّ الظن لا يُغني في التوصل الى الحق والواقع لأنَّ الظن يُخطئ وهذا في نفسه يستبطن أنَّ المطلوب هو الوصول الى لُب الواقع ومُرُّ الحق ولذا كان الظن لا يُغني عنه، وهذا ينطبق على أصول الدين لأنَّ المطلوب فيها هو الوصول الى الحق والواقع بينما في فروع الدين وإن كان الوصول الى الواقع مطلوباً ولكن يكفي فيه العمل بالأحكام الظاهرية التي قد تطابق الواقع وقد لا تطابقه وإن كانت هي أقرب الطرق إليه، فقد يقال بحسب هذه القرينة أنَّ هذه الآيات تختص بأصول الدين لأنَّ الظاهر منها هو أنّ الوصول الى الحق لا يكفي فيه الإستناد الى الظن ، فإنَّ تم هذا فيكون إشكالاً على الدليل الرابع.

هذا تمام الكلام عن تأسيس الأصل في المسألة، فإذا دخلنا في ظن من الظنون التي يُدعى حجيتها ولم نعثر على دليل يدل على حجيته ولا على دليل ينفي الحجية عنه وإنتهينا الى الشك فالمرجع هو الأصل المتقدم وأنَّ الأصل فيما يُشك في حجيته أنه ليس حجة.

حجية السيرة

وتقديم الحديث عن السيرة على بقية الظنون لوجهين:

الأول: هو أنَّ السيرة لم تُبحث بحثاً مستقلاً وإنما ذُكرت ضمناً في مباحث أخرى كالاستدلال على حجية خبر الثقة وحجية الظواهر فتذكر كدليل على حجيتها ولم يُفرد لها بحث مستقل مع أهميتها لأنها تُشكل أهم الأدلة على حجية ما سيأتي من الظنون كالظواهر وخبر الثقة ، فلابد من بحثها بشكل مستقل ومعرفة حدودها التي نريد الإستدلال بها إما على الحكم الشرعي وإما على حجية الأمارات الآتية ، فالاستدلال بها تارة يكون على إثبات حكم واقعي وأخرى يكون على إثبات حكم ظاهري ، أما الأول فكالاستدلال بها على أنَّ الحيازة مُملِّكة فيثبت بها أنَّ الحيازة من أسباب المِلك وهذا حكم واقعي، والثاني كالاستدلال بها على حجية خبر الواحد وحجية الظواهر وهذه أحكام ظاهرية مجعولة في ظرف الشك.

الثاني: إنَّ حجية السيرة تختلف عن حجية الأمارات الآتية فهي قائمة على أساس القطع في حين أنَّ حجية الأمارات الأخرى قائمة على أساس جعل الحجية لها تعبداً من قِبل الشارع وهذا فرق بينهما.

وينبغي الإلتفات قبل الشروع في بحث السيرة الى أمور :

الأمر الأول: إنَّ المراد بالسيرة في المقام لا يتحدد بحدود السيرة بمعنى العمل الخارجي بل المراد منها معنى يشمل المرتكزات العقلائية والشرعية وهي عبارة عن مرتكزات موجودة عند العقلاء والمتشرعة وإن لم تتمثل بعمل خارجي لوجود المانع كعدم تحقق الموضوع في الخارج ، فالكلام عن السيرة أعم من خصوص العمل الخارجي الذي يفهم من كلمة (السيرة) ، وهذه المرتكزات مهمة وكثيراً ما يُستدل بها خصوصاً بين المتأخرين، فالكلام عن السيرة يقع بهذا المعنى العام.

الأمر الثاني: أنَّ الكلام في السيرة كبحث أصولي يقع في السيرة التي نُثبت به حكماً شرعياً إلهياً بأن تكون هي المدرك لهذا الحكم الشرعي، وهذا الحكم الثابت بالسيرة أعم من أن يكون حكماً شرعياً واقعياً كالحيازة مُملِّكة أو يكون حكماً شرعياً ظاهرياً كحجية خبر الثقة.

الأمر الثالث: هناك سيرة خارجة عن محل الكلام كالسيرة التي يُعتمد عليها لتنقيح موضوع وارد في الأدلة الشرعية وهذه خارجة عن علم الأصول، وذلك من قبيل السيرة التي تُذكر على لزوم الإنفاق على الزوجة بمستوى معين بحيث لو أنفق عليها بما هو أقل من ذلك فلا يكون ذلك معاشرة بالمعروف ، فهذه سيرة تُنقح موضوع وجوب الإنفاق على الزوجة في الدليل الشرعي وهي خارجة عن بحثنا.

وقد تذكر السيرة بمعناها العام الشامل للمتركزات العقلائية والمتشرعية ويستعان بها على فهم الدليل الشرعي - لا لإثبات حكم شرعي - فإنَّ المرتكزات العقلائية تُشكل قرائن لُبية متصلة بالدليل وتمنع من إنعقاد ظهوره على خلافها، ولا فرق في الدليل المتصل المانع من إنعقاد الظهور بين أن يكون لفظياً أو لُبياً ، فمثلاً إذا ورد في دليل أنَّ المشتري إذا جاء بالثمن خلال ثلاثة أيام وإلا فلا بيع بينهما، فإذا جمدنا على حاق اللفظ الوارد في هذا الدليل ولم نضم إليه المرتكزات العقلائية لحكمنا ببطلان البيع بينما المرتكزات العقلائية تقول لا يبطل البيع وإنما يثبت الخيار للبائع في فسخ المعاملة ، فيكون الدليل في مقام نفي لزوم البيع لا نفي أصله حتى يُحكم بالبطلان ، فهذه مرتكزات عقلائية إذا حَكَّمناها ساعدتنا على فهم الدليل، فهذه سيرة خارجة أيضاً عن محل الكلام.

فكلامنا في السيرة التي يُستدل بها على الحكم الشرعي الأعم من أن يكون حكماً واقعياً أو يكون حكماً ظاهرياً.

والكلام في السرة يقع في مقامين :

المقام الأول: في أقسام السيرة.

المقام الثاني: في كيفية إستكشاف الحكم الشرعي الكلي الإلهي من السيرة.

أما المقام الأول فالسيرة تنقسم الى قسمين رئيسيين: السيرة العقلائية وسيرة المتشرعة، وهما يختلفان إختلافاً جذرياً في شروطهما وفي كيفية الإستدلال بهما على الحكم الشرعي، فلابد من الحديث عنهما بشكل مستقل، والكلام يقع أولاً في السيرة العقلائية.