43/06/11
الموضوع: الظن/ المقدمة / تأسيس الأصل عند الشك في الحجية/ الملاحظات على الدليل الرابع
كان الكلام في الدليل الرابع على تأسيس الأصل عند الشك في الحجية وهو التمسك بالأدلة الناهية عن العمل بالظن وهي كثيرة من الآيات والروايات التي تنهى عن إتباع الظن، فيمكن التمسك بها عند الشك في حجية ظن ما ، نعم لو قام دليل على الحجية نعمل به تخصيصاً لتلك العمومات والمطلقات الناهية عن العمل بالظن، لكن المفروض هو عدم قيام دليل على حجية هذا الظن والأدلة تنهى عن إتباعه والعمل به، والنهي عن العمل بالظن في حقيقته إرشاد الى عدم الحجية ومع التمسك بهذه الأدلة يثبت عدم حجية ما نشك في حجيته وهو المطلوب.
وتخريجه يكون بإرجاع الشك في المقام الى الشك في التخصيص الزائد فإنَّ كل ظن دلَّ الدليل على حجيته يخرج عن تلك العمومات بالتخصيص فإذا شككنا في ظن ما فهذا يعني الشك في التخصيص الزائد لتلك العمومات، ولا إشكال في الرجوع الى العمومات والمطلقات عند الشك في التخصيص الزائد لأثبات عدم حجية مشكوك الحجية.
لكن المحقق النائيني قده يقول لا يجوز التمسك بالعمومات في محل الكلام لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص وهو غير جائز قطعاً، وقد بنى ذلك على مختاره من أنَّ الحجية تعني إعتبار الشيء علماً وهذا معناه أنَّ الشك في حجية هذا الظن هو شك في أنَّ الشارع إعتبره علماً أو لا ، وتوضيحه:
العمومات الناهية موضوعها عدم العلم ولابد من إحراز موضوعها لصحة التمسك بها كما هو الحال في أي دليل، فمثلاً لابد من إحراز أنّ هذا خمر لإثبات أنه حرام، والعمومات في محل الكلام تقول أنَّ الظن ليس حجة ونحن نشك في أنَّ هذا الظن علم أو ليس بعلم فلا نُحرز إنطباق موضوع العمومات على محل الكلام فلا يمكن التمسك بها لإثبات عدم الحجية ويكون التمسك بها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص، فهذا الدليل غير تام.
ولوحظ عليه بعدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: قالوا إنَّ الحجية الواقعية لا يترتب عليها أثر ما لم تصل الى المكلف، ومن جملة الآثار التي تترتب على الحجية الواصلة هي الحكومة، وهذا يعني كما أنَّ التنجيز والتعذير للحجية يتوقف على وصولها فالحكومة أيضاً تتوقف على الوصول ومع عدمه كما هو المفروض في محل الكلام فكما لا تنجيز ولا تعذير فكذلك لا حكومة ، فلا يمكن أن نقول أنَّ الحجية غير الواصلة تكون حاكمة على الأدلة الناهية عن العمل بالظن، نعم لو وصلتْ الحجية يكون هذا الدليل حاكماً على الأدلة الناهية عن العمل بالظن بحسب مسلك المحقق النائيني وذلك لأنها تُخرج هذا الظن عن موضوع الأدلة الناهية عن العمل بالظن تعبداً ، فكلام المحقق النائيني قده إنما يصح إذا كانت الحجية واصلة ولكن المفروض هو عدم وصولها أي لا دليل على إعتبار هذا الظن الخاص علماً فلا حكومة.
والحاصل: إنَّ العمل بما لم تصل حجيته الى المكلف هو عملٌ بغير علم وإن كان حجة في الواقع لأنَّ كونه حجة في الواقع مع عدم علم المكلف به لا يجعل العمل به عملاً بالعلم بل يبقى عملاً بغير العلم ومعه نُحرز إنطباق موضوع الأدلة الناهية عن العمل بالظن عليه فنتمسك بها لإثبات عدم حجيته.
ويلاحظ عليها:كأنّ المدعى في هذه الملاحظة هو ربط الحكومة بالتنجيز والتعذير وأنَّ الجميع آثار للحجية الواصلة وليست آثاراً للحجية الواقعية، والحال أنه لا ربط بينهما لأنَّ الحكومة علاقة بين دليلين فإذا أُخذ في دليل عدم العلم وجاء دليل آخر إعتبر شيئاً علماً فيكون الثاني حاكماً على الأول لأنه يرفع موضوعه تعبداً، ولا علاقة للحكومة بالتنجيز والتعذير حتى يقال حيث لا تنجيز ولا تعذير للحجية غير الواصلة فلا حكومة أيضاً ، وإنما الحكومة علاج لحالات التعارض الإبتدائي الواقعة بين الأدلة فهي من شؤون الدليل ولا تتوقف على الوصول كما هو الحال في التنجيز والتعذير للحجية، ولذا قالوا إنَّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها والحكومة ليست كذلك فلو فرضنا عدم قيام الدليل على حجية هذا الظن ولكنّ ذلك لا يمنع من أن نقول أنَّ هذا الظن المشكوك الحجية يدور أمره بين أن يكون حجة واقعاً أو لا يكون كذلك فإن دلَّ الدليل على حجيته فيكون حاكماً على الأدلة الناهية عن العمل بالظن وإن لم يدل الدليل على حجيته فلا حكومة ، وهذا لا شأن له بالوصول.
وعليه نحن نحتمل أنّ هذا المورد قد إعتبره الشارع علماً ونحتمل أيضاً أنه لم يعتبره علماً فكيف نتمسك بالعمومات مع عدم إحراز إنطباق موضوعها عليه ! فيكون التمسك بالعام تمسكاً به في الشبهة المصداقية، فهذه الملاحظة إنصافاً غير واردة على ما ذكره المحقق النائيني قده .
الملاحظة الثانية: أن يقال الحجية بوجودها الواقعي لو كانت تمنع من العمل بالعمومات الناهية عن العمل بالظن لما صح التمسك بالأصول العملية في شيء من الموارد، وبيان ذلك:
لو فرضنا أنَّ دليل الذي لم تثبت حجيته دلَّ على وجوب شيء فنتمسك هنا بالأصول العملية المؤمنّة كأصالة البراءة والإباحة لنفي هذا الوجوب المحتمل ولكن الأصول العملية أُخِذ في موضوعها عدم العلم (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) فهذا الدليل المشكوك الحجية على تقدير الحجية يكون علماً بحسب مسلك المحقق النائيني وعلى تقدير عدم الحجية لا يكون علماً فهنا إحتمالان ولا نحرز إنطباق عدم العلم على هذا الدليل المشكوك فكيف يمكن التمسك بعمومات الأصول العملية في محل الكلام مع أنَّ التمسك بها يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص ؟!
فهل يمنع المحقق النائيني من العمل بالأصول العملية والتمسك بعموماتها عند الشك كما في هذا المورد ، قطعاً لا يمنع من ذلك ، فهذا نقض على ما ذكره.
الملاحظة الثالثة: لو أغمضنا عن مسألة الحكومة بإعتبار أنها تخصيص في الواقع لكن بلسان رفع الموضوع ، فإنَّ التخصيص إخراج من الحكم مع بقاء الموضوع كما في (أكرم العلماء) و (لا تكرم زيداً العالم) فالدليل الثاني يكون تخصيصاً للدليل الأول وهو إخراج من الحكم ، والحكومة إخراج من الموضوع ولكن المراد منها واقعاً هو الإخراج من الحكم كما في (الربا حرام) و (لا ربا بين الوالد وولده) فإنَّ المقصود في الثاني هو نفي حرمة الربا بين الوالد وولده إلا أنه بلسان رفع الموضوع، فواقع الحكومة هو التخصيص والدليل الدال على الحجية في واقعه مخصص للأدلة الناهية عن العمل بالظن، فإذا تبين ذلك تقول الملاحظة:
إنَّ الشك في محل الكلام يكون داخلاً في الشك في التخصيص الزائد للعمومات الناهية عن العمل بالظن فإنها خُصصتْ قطعاً في بعض الموارد كخبر الثقة الذي دلَّ الدليل على حجيته فالشك في حجية هذا الظن يكون شكاً في التخصيص الزائد لتلك العمومات ولا إشكال ولا ريب في جواز التمسك بالعمومات عند الشك في التخصيص الزائد.
الملاحظة الرابعة: كأنَّ المحقق النائيني قده ينظر الى الأدلة الناهية عن العمل بالظن على أنها في مقام بيان الحكم التكليفي بمعنى أنَّ مفادها هو حرمة العمل بالظن، لكن مفادها ليس ذلك وإنما مفادها هو بيان الحكم الوضعي وهو الإرشاد الى عدم الحجية وأنه لا يصح التعويل على الظن لإحتمال أن يكون مخالفاً للواقع، والدليل الدال على حجية إمارة ما يكون إرشاداً الى الحجية، وهذا يعني أنّ الدليل الدال على الحجية في عرض الأدلة الناهية عن العمل بالظن فهي تقول العمل بالظن ليس حجة والدليل الآخر يقول هذا الظن حجة فهما في عرض واحد وكل منهما ينفي ما يُثبته الآخر فلا مجال لدعوى الحكومة بينهما ، والصحيح أن يقال بالتخصيص بينهما بمعنى أنَّ الدليل الدال على الحجية يثبتها لمورده والعمومات تنفيها فيُخرج الدليل الخاص مورده من العمومات إخراجاً حُكمياً لا موضوعياً.
وبعبارة أخرى: هذه مناقشة في أصل مبنى المحقق النائيني قده فإنه يقول أنَّ مفاد دليل الأمارة هو إعتبارها علماً فتخرج عن موضوع العمومات الناهية عن العمل بالظن، والملاحظة تنفي ذلك وتقول هذا ظن ولكنه حجة فيكون تخصيصاً وإخراجاً حكمياً، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق كما هو واضح لأنَّ العمومات تقول (لا شيء من الظن بحجة) والدليل الخاص يقول (هذا الظن حجة) ، هذا إذ وجد الدليل على الحجية وأما مع الشك كما هو المفروض في محل الكلام فالشك يرجع الى الشك في التخصيص الزائد ولا إشكال في الرجوع الى العمومات عند الشك في التخصيص الزائد حتى عند المحقق النائيني قده.