43/06/08
الموضوع: الظن/ المقدمة / تأسيس الأصل عند الشك في الحجية/ الدليل الثالث والرابع
كان الكلام في الدليل الثاني على تأسيس الأصل عند الشك في الحجية - وهو الإستصحاب - وقلنا إنَّ الشيخ أورد عليه بأنه تحصيل للحاصل بالبيان الأول الذي يُجري الإستصحاب بلحاظ التأمين وعدم المنجزية، والبيان الثاني هو إجراء الإستصحاب بلحاظ إثبات حرمة الإسناد وحرمة الإستناد، وأنه يكفي في إثابتها الشك في الحجية فيكون إجراء الإستصحاب لإثباتها من تحصيل الحاصل بل من أردأ أنواعه.
وقلنا إنّ صاحب الكفاية إعترض عليه باعتراضين:
أما الأول فبأنّ غايته هو عدم ترتب الأثر على هذا الإستصحاب لثبوت الأثر بقطع النظر عنه ولكن لا مشكلة فيه لأنَّ الإستصحاب الذي يعتبر فيه ترتب الأثر هو الإستصحاب الجاري في موضوع الحكم الشرعي وأما إذا كان المستصحب هو نفس الحكم الشرعي وجوداً أو عدماً فلا يشترط فيه ترتب الأثر، فلا مانع من إجراء إستصحاب عدم الحجية وإن لم يترتب عليه حرمة الإسناد وحرمة الاستناد لثبوتها بمجرد الشك وبقطع النظر الإستصحاب.
وهذا المطلب محل مناقشة من قبل جملة من المحققين فلا يكفي في جريان الإستصحاب أن يكون مؤداه حكماً شرعياً بل لابد من فرض ترتب أثر عليه حتى يكون التعبد الإستصحابي بلحاظ ذلك الأثر.
فالصحيح أنه يعتبر في كل إستصحاب - سواءً كان المستصحب موضوعاً لحكم شرعي أو كان هو حكماً شرعياً أو عدم حكم شرعي - أن يترتب عليه الأثر ولا يجري إذا لم يترتب عليه الأثر، وفي محل الكلام الإعتراض يقول إنَّ إستصحاب عدم الحجية لا يترتب عليه أثر وإن كان استصحاباً لعدم الحكم لأنَّ الأثر المتوخى هو حرمة الإسناد والاستناد وهي ثابتة بنفس فرض الشك في الحجية.
وأما الثاني: فإنَّ حرمة الإسناد والاستناد تترتب على كلٍ من الشك وعدم الحجية وبالاستصحاب نحرز أحد هذين الفردين فيترتب عليه حرمة الإسناد بإعتبار عدم الحجية لا حرمة الإسناد باعتبار الشك في الحجية، أي نثبت الحرمة بالاستصحاب إستناداً الى إحراز عدم الحجية، في حين أنّ إثبات الحرمة مع الشك يكون بإعتبار الشك في تحقق موضوعها، وعليه لا مانع من جريان الإستصحاب.
وأُجيب عنه: إنَّ غاية ما يلزم مما ذُكر هو أنَّ حرمة الإسناد والاستناد تترتب على الشك وعلى عدم الحجية وهذا يعني أنّ موضوعها هو الجامع بين هذين الأمرين، فإذا وجد الجامع بوجود أحد فرديه - وهو الشك - فتثبت الحرمة وإذا ثبتت يكون إجراء الإستصحاب تحصيلاً للحاصل لأنَّ هذه الحرمة واحدة وموضوعها الجامع فهي تتحقق بأي فرد من أفراد الجامع والشك موجود قبل الإستصحاب وهو أحد فردي الجامع فتثبت الحرمة ومع ثبوتها لا معنى لإجراء الإستصحاب لإثبات نفس هذه الحرمة.
وهذا الجواب كما هو واضح مبني على إفتراض حرمة واحدة موضوعها الجامع بين الشك وعدم الحجية، وفرق بين أن تكون هناك حرمتان للإسناد أحدهما موضوعها الشك في الحجية والأخرى موضوعها عدم الحجية وبين أن نقول هناك حرمة واحدة موضوعها الجامع بين الشك وعدم الحجية ، والإعتراض مبني على الثاني فيقال قبل الإستصحاب هناك شك وهو أحد فردي الجامع فيتحقق موضوع الحرمة ويتحقق بذلك الحكم، وليس هناك حكم آخر حتى يجري الإستصحاب لغرض إثباته وإنما يجري لإثبات نفس الحكم الثابت فيكون تحصيلاً للحاصل ، وأما إذا كان صاحب الكفاية يفترض وجود حرمتين بملاكين مختلفين هما حرمة الإسناد بملاك الشك في الحجية وحرمة الإسناد بملاك إحراز عدم الحجية فحينئذٍ يكون إعتراضه تاماً ولا يلزم منه تحصيل الحاصل ، لأنَّ الثابت باستصحاب عدم الحجية حرمة بملاك عدم الحجية وهي ليست ثابتة بقطع النظر عن الإستصحاب ، والحرمة الثابتة بقطع النظر عنه هي الحرمة بملاك الشك في الحجية ، وهذا من قبيل ما لو أُريد إثبات حرمة أكلُ مالٍ باستصحاب كونه مِلكاً للغير مع ثبوت الحرمة له باعتبار نجاسته ، فيجري الإستصحاب لإثبات تلك الحرمة.
هذا هو الدليل الثاني الإستصحاب وتبين أنّه لا يجري لإثبات الأصل في المسألة.
الدليل الثالث: التمسك بما دلَّ على حرمة التشريع ، وهي أدلة كثيرة عقلية ونقلية كما يقول الشيخ ويكفي فيها قوله تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقࣲ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامࣰا وَحَلَـٰلࣰا قُلۡ ءَاۤللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ﴾ يونس:59 ، فالافتراء وقع مقابلاً للإذن، وتقريب الإستدلال بهذه الأدلة أن يقال إذا قامت الأمارة على حكم وشككنا في حجيتها فلا يمكن إثبات المؤدى كحكم شرعي لأنه إفتراء لم يأذن به الله ، وهذا يعني التعامل مع الأمارة المشكوك في حجيتها معاملة الأمارة التي ليست بحجة من حيث حرمة الإسناد والإستناد.
ومن الواضح أنَّ الآية ليس فيها دلالة على عدم الحجية بنفس مدلولها لأنها ليست ناظرة الى مسألة عدم الحجية وإنما نظرها الى مسألة الافتراء على الله والتوبيخ عليه، أو قل الآية ليست ناظرة الى مسألة العمل حتى يقال عندما تنهى عن العمل بالأمارة التي نشك في حجيتها يُفهم منه الإرشاد الى عدم الحجية كما في آية ﴿إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡئاًۚ﴾ يونس:36 الناظرة الى مقام العمل وإتباع الظن فنستفيد من النهي عن إتباع الظن عدم حجيته ، وأما الآية الأولى فغير ناظرة الى مقام العمل حتى تكون إرشاداً الى عدم الحجية وإنما نظرها الى حرمة الإسناد بدون إذن وأنه إفتراء على الله ، ومن هنا يكون الإستدلال بها بحاجة الى تتميم وهو أن تدعى الملازمة بين جواز الإسناد وبين الحجية فكل ما يجوز إسناده الى الشارع إستناداً الى شيء فذلك الشيء حجة، فإذا حَرُم الإسناد إنتفت الحجية، وتطبيق ذلك على الآية الشريفة هو أنَّ الآية فيها دلالة على حرمة الإسناد من دون علم وهي في محل الكلام الأمارة التي لا دليل على حجيتها ، وإذا إنتفى جواز الإسناد إنتفت الحجية فيثبت أنَّ هذه الأمارة ليست حجة.
وأما إذا أنكرنا الملازمة وقلنا إنّ الحجية أعم من جواز الإسناد فقد يكون الشيء حجة ومع ذلك لا يثبت جواز الإسناد فحينئذٍ إنتفاء جواز الإسناد لا دلالة فيه على إنتفاء الحجية.
ولكن هل الآية الشريفة في مقام إثبات حرمة إسناد ما لا يُعلم به بقطع النظر عن الحجية أم هي ناظرة الى الإسناد وتدل على حرمته إلا مع الإذن والعلم باعتبار عدم الحجية ؟
لا يبعد أن يقال هي ناظرة أساساً الى عدم الحجية وإن كان مفادها الأولي هو حرمة الإسناد ولكن الذي يُفهم منها هو أنَّ حرمة الإسناد لعدم كونه حجة فهي ناظرة الى مسألة عدم الحجية ولذلك يكون الإسناد بدون علم وبدون إذن إفتراءً على الله وتشريعاً محرماً، فلا يحتاج الإستدلال بها الى تتميم.
الدليل الرابع: التمسك بعمومات الأدلة الناهية عن العمل بالظن
وهي أدلة كثيرة تنهى عن العمل بالظن فيمكن التمسك بها في الأمارة التي نشك في حجيتها فهي ظن والأدلة تنهى عن العمل به عند الشك في حجيته، نعم إذا أحرزنا حجيتها يجب العمل بها بمقتضى أدلة الحجية ، وعدم جواز العمل بالأمارة يعني عدم حجيتها وإلا لجاز العمل بها بلا إشكال ، فالتمسك بهذه الأدلة نافع في إثبات أنَّ الأصل عند الشك في الحجية هو عدم الحجية.
وبعبارة أخرى إنَّ الشك في الحجية يرجع الى الشك في التخصيص الزائد لعمومات النهي عن إتباع الظن، فهذه العمومات والمطلقات خرج منها بالتخصيص بعض الموارد - وهي ما قام الدليل على حجيته من الأمارات - وإذا شككنا في أمارة ما في أنها حجة أو لا فيرجع هذا الشك الى الشك في التخصيص الزائد بالنسبة الى تلك العمومات ومن الواضح في مثله التمسك بالعمومات لنفي هذا الشك.
وأشكل المحقق النائيني على هذا الدليل بما حاصله:
أنَّ التمسك بالعمومات في محل الكلام هو من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وقد إتفقوا على عدم جوازه وذلك بإعتبار أنَّ العمومات موضوعها الظن - أو عدم العلم بحسب تعبيره - وإذا دلَّ دليل على حجية أمارة تكون علماً بناءً على مبناه فتخرج من تلك العمومات ، وفي محل الكلام نشك في أنَّ هذا المورد حجة أم لا ، أي نشك في أنه علم أم ليس بعلم على رأي المحقق النائيني ، فنحن لا نحرز موضوع تلك العمومات حتى نتمسك بها أي نتمسك بالعمومات مع الشك في تحقق موضوعها وهذا هو التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص.