43/06/07
الموضوع: الظن/ المقدمة / تأسيس الأصل عند الشك في الحجية/ مناقشة الدليل الثاني
كان الكلام في الدليل الثاني في تأسيس الأصل عند الشك في الحجية وهو الإستصحاب إما بصيغة إستصحاب عدم جعل الحجية لهذا المشكوك بإعتبار أنَّ الجعل أمر حادث مسبوق بالعدم، وإما بصيغة إستصحاب عدم الحجية المجعولة.
وكانت المناقشة فيه هو أنَّ الإستصحاب لا يجري لأنَّ موضوعه الشك وفي محل الكلام نقطع بعدم الحجية فلا مجال لاستصحاب عدم الحجية.
وقد يُعترض على هذا الجواب بنفي حصول القطع بعدم جعل الحجية وإنَّ غاية ما يمكن أن يقال هو أننا نقطع بعدم الحجية الفعلية لهذا المشكوك، وفرق بين القطع بعدم الحجية الفعلية وبين القطع بعدم جعل الحجية، وحيث أنّ الحجية المشكوكة لهذا الشيء لا أثر لها باعتبار عدم ترتب أي أثر عليها فلا يثبت بها التنجيز ولا التعذير ولا جواز الإسناد ولا جواز الإستناد، إذن لا حجية فعلية لهذا الشيء المشكوك حجيته، ولكنه لا يلازم القطع بعدم جعل الحجية فقد تكون مجعولة في الواقع لكنها ليست فعلية ، فيبقى جعل الحجية أمراً مشكوكاً فلا يصح القول بعدم جريان الإستصحاب للقطع بعدم جعل الحجية، فيمكن إجراء الإستصحاب بصيغته الأولى بإعتبار أنَّ جعل الحجية أمر حادث مسبوق بالعدم فنستصحب عدمه.
وجوابه: ذكرنا سابقاً بأنَّ القطع بعدم جعل الحجية شرعاً يحصل في حالة واحدة وهي ما إذا أُخِذ العلم في موضوع الجعل الشرعي بمعنى أنَّ الحجية المجعولة شرعاً مختصة بصورة العلم بها، فهي حكم يختص بالعالمين به ولا تشمل الجاهل، فهنا لا إشكال في أننا نقطع بعدم جعل الحجية عند الشك في جعلها، فإذا أمكن إثبات أنّ العلم أخذ في موضوع جعل الحجية شرعاً بنحو تكون الحجية مختصة بالعالم ولا تشمل الجاهل فعند الشك في جعل الحجية نقطع بعدم جعلها شرعاً، وحينئذٍ يأتي الإشكال المتقدم بأنه لا مجال لإجراء إستصحاب عدم جعل الحجية.
ولكن قد تقدم أنَّ أخذ العلم قيداً في الجعل لا مشكلة فيه ثبوتاً ولكن مشكلته إثباتية ولا دليل عليه إلا مسألة اللغوية، وحاصلها إنَّ إطلاق الجعل للجاهل لغو فلابد من تقييد الجعل بالعلم فيثبت التقييد بدليل لغوية الإطلاق.
ولكن تقدم الجواب عنه وأنَّ الإطلاق على الأقل ليس لغواً فلا يكون مستحيلاً وإنما إختصاص الحجية بحال الجهل يلزم منه اللغوية، فلا دليل على أخذ العلم قيداً في جعل الحجية، ومن هنا يمكن القول بأننا لا نقطع بعدم جعل الحجية لأنه مبني على أخذ العلم قيداً في الجعل الشرعي ومقام الإثبات لا يُساعد عليه، فإلى هنا لا مانع من جريان الإستصحاب.
لكن المشكلة في إجراء نفس الإستصحاب وذلك لأنَّ الإستصحاب وسائر الأصول العملية إنما تجري إذا ترتب الأثر على إجرائها بحيث لا يكون الأثر ثابتاً لولا جريان الإستصحاب فيُتعقل التعبد بجريانه، وحينئذٍ نسأل ما هو أثر إستصحاب عدم جعل الحجية ؟
قد يُقال يثبت به عدم التنجيز وعدم التعذير وعدم جواز الإسناد والاستناد، ولكن هذه الآثار ثابتة بقطع النظر عن الإستصحاب لأنها من آثار الشك في الحجية والمفروض في المقام هو عدم العلم بالحجية فإجراء الإستصحاب لإثبات هذه الآثار مع كونها ثابتة في ظرف الشك يكون تحصيلاً للحاصل فلا أثر يترتب على التعبد الإستصحابي.
وبعبارة أخرى: إنَّ جعل الحجية في ظرف الشك في الحجية لا يخلو إما أن يكون لغواً أو لا يكون كذلك ، فإن قلنا أنه لغو فيكون مستحيلاً ونقطع حينئذٍ بعدم جعلها ومع القطع بعدم جعلها لا مجال للإستصحاب ، وإن قلنا أنه ليس لغواً فلا يجري الإستصحاب أيضاً لعدم ترتب ثمرة عليه ، هذه هي المناقشة في الدليل الثاني.
إعتراض الشيخ الأنصاري:
إعترض الشيخ الأنصاري بأنَّ التأمين وعدم المنجزية مترتب على مجرد الشك لأنها من آثار الحجية الواصلة ومع عدم الوصول يثبت التأمين، فإجراء الإستصحاب لإثبات التأمين وعدم المنجزية يكون من تحصيل الحاصل بل من أردأ أنواعه لأننا نريد أن نثبت بالتعبد الإستصحابي ما هو ثابت وجداناً.
وهذا مطلب سيال يأتي في جملة من الموارد، ففي قاعدة الإشتغال مثلاً أحد الأدلة على الإشتغال في موارد معينة هو إستصحاب الإشتغال إذا كانت الحالة السابقة هي إشتغال الذمة، فيُعترض عليه بهذا الإعتراض فإنَّ إستصحاب الإشتغال لإثبات التنجيز وهو ثابت بقاعدة الإشتغال وبقطع النظر عن الإستصحاب، فالتنجيز ثابت بمجرد الشك في الفراغ، فهو ثابت بالوجدان وبقطع النظر عن الإستصحاب.
ونفس الكلام يقال في البراءة عندما يُستدل عليها باستصحاب عدم التكليف والحال أنها ثابتة بمجرد إفتراض الشك في التكليف، وهذا من تحصيل الحاصل بل من أردأ أنواعه لأنه إثبات تعبدي لما هو ثابت وجداناً.
ويمكن الجواب عن هذا الإعتراض بأنه إنما يلزم فيما لو فرضنا أنَّ الأثر الذي يترتب على الشك هو نفس الأثر الذي يُراد إثباته بالإستصحاب، وأما إذا فرضنا أنَّ ما يترتب على الإستصحاب غير ما ثبت في فرض الشك فلا يلزم من إجراء الإستصحاب تحصيل الحاصل، وتقريب ذلك:
إنَّ التأمين له درجات والثابت منه في ظرف الشك هو التأمين بملاك عدم البيان بينما التأمين الذي يثبت بالإستصحاب هو التأمين بملاك بيان العدم وفرق بين الملاكين، واستصحاب عدم جعل الحجية يكون بياناً على التأمين وهو أهم وأشد من التأمين الثابت بملاك عدم البيان، أو قل الإستصحاب بيان وتعبد شرعي على التأمين وبقطع النظر عنه ليس هناك إلا الشك وهو يعني عدم البيان على التنجيز بمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيثبت التأمين لعدم البيان على خلافه، ولذا يكون العقاب على المخالفة عند إجراء الإستصحاب أقبح من العقاب على المخالفة في فرض عدم إجرائه وما ذلك إلا لشدة التأمين ، فمن هذه المؤشرات نقول أنَّ ما يترتب على إجراء الإستصحاب غير ما يترتب على مجرد الشك فلا يكون إجراء الإستصحاب في عدم جعل الحجية من باب تحصيل الحاصل، وبهذا يندفع الإشكال.
وللشيخ الأنصاري بيان آخر وذلك بأن يوجه الإعتراض بلحاظ حرمة الإسناد والاستناد وحرمة الإفتاء لا بلحاظ التأمين وعدم المنجزية فيقول:
إنَّ إستصحاب عدم جعل الحجية إنما يكون لأجل إثبات حرمة الإسناد والاستناد والإفتاء ولكنه تحصيل للحاصل لأنَّ هذه الأحكام ثابتة بمجرد إفتراض الشك في حجية الأمارة.
وإعترض صاحب الكفاية على البيان الأخير بما حاصله:
لو سلَّمنا ما ذُكره فهو لا يمنع من جريان الإستصحاب لأنَّ المستصحب في التوجيه الثاني هو بنفسه حكم شرعي والمقصود من إشتراط ترتب الأثر من جريان الإستصحاب هو وجود أثر يترتب على المستصحَب عندما يكون موضوعاً لحكم شرعي وأما إذا كان المستصحب بنفسه حكماً شرعياً فهو أثر بنفسه ولا نشترط في جريانه ترتب أثر عليه، والمستصحب في محل الكلام حكم شرعي وإن كان عدمياً - وهو عدم جعل الحجية - فإذا كان المستصحب كذلك فلا نشترط ترتب الأثر عليه.