الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/06/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ المقدمة / تأسيس الأصل عند الشك في الحجية

كان الكلام في تأسيس الأصل عند الشك في الحجية وقلنا أنه اُستدِل على عدم الحجية بما نقلناه عن المحقق الخراساني وهو ينتج عدم الحجية واقعاً عند الشك في حجية شيء ، والمقصود من عدم الحجية واقعاً هو عدم ترتب آثار الحجية على الشيء الذي نشك في حجيته واقعاً وذلك لأنَّ الآثار موضوعها الحجية المعلومة - الحجية بقيد العلم - ومع الشك لا علم فينتفي الموضوع وإذا إنتفى موضوع هذه الآثار فتنتفي هي قطعاً فيحصل القطع بعدم الحجية واقعاً.

ويمكن أن نستدل هذا الأصل ببيان آخر وذلك بأن نقول أنَّ الشك في حجية شيء شرعاً يساوق القطع بعدمها شرعاً، ودليله هو إذا فرضنا أنَّ الحجية مقيدة بالعلم فعندما ينتفي العلم فلا حجية شرعاً ، ومعنى ذلك هو أخذ العلم في موضوع الحجية (إذا علمتَ بشيء أنه حجة فهو حجة) وقد تقدم أنه قد يؤخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول كما في القصر الصلاة (..إن كان قُرأتْ عليه آية التقصير وفُسِّرتْ له فصلى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرأتْ عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه).

فإذا عَلِمَ المكلف بالجعل يكون المجعول فعلياً في حقه، وهذا لا مانع منه ثبوتاً ، نعم المشكلة فيه إثباتية فلابد من إثبات أن العلم بالجعل أُخِذ في موضوع المجعول ، وفي محل الكلام إذا فرضنا أنَّ العلم بجعل الحجية لشيء مأخوذ في موضوع الحجية بمعنى أنَّ الشيء لا يكون حجة فعلاً إلا عند العالم بجعل الحجية له ففي هذه الحالة يكون الشك في الحجية يُساوق القطع بعدمها شرعاً لأنَّ الحجية شرعاً مقيدة بالعلم بجعل الحجية بحسب الفرض ومع عدم العلم بجعل الحجية شرعاً كما هو المفروض في محل الكلام فلا يكون هذا الشيء حجة شرعاً ، فالشك في الحجية شرعاً يساوق القطع بعدمها شرعاً ، وهذا لا مانع منه ثبوتاً لكنه يحتاج الى دليل يثبت أنَّ الحجية شرعاً مقيدة بالعلم بالجعل.

وبعبارة أخرى ما هو الدليل على أنَّ الحجية ليست كسائر الأحكام الواقعية الشرعية غير المقيدة بالعلم بالجعل ولذا تثبت هذه الأحكام في حق العالم والجاهل ؟

فتقييد الحجية بالعلم بالجعل بحاجة الى دليل، فهناك قصور في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت.

هذا تخريج آخر لكون الأصل في المقام هو عدم الحجية ولكون الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها شرعاً - لا واقعاً - لأنَّ آثار الحجية الواقعية لا تترتب إلا على الحجية المعلومة ومع إنتفاء العلم ينتفي الموضوع فتنتفي آثار الحجية واقعاً ، والجواب الثاني ناظر الى الحجية عند الشارع وهل هي مقيدة بالعلم أم لا ، فإذا فرضنا أنها مقيدة بالعلم فيصح القول أنَّ الشك في الحجية شرعاً يساوق القطع بعدمها شرعاً.

ومن هنا قد يقال أنه يمكن إثبات تقييد الحجية بالعلم بالجعل وذلك بأن يقال إنَّ إطلاق الحجية للعالم والجاهل لغو لأنَّ ثبوت الحجية في حق الجاهل لا يترتب عليها أثر وأما بحق العالم فيترتب عليها أثر كالتنجيز والتعذير وجواز الإسناد وجواز الإستناد، فإذا كان إطلاق الحجية للعالم والجاهل لغو ومحال فلابد من تقييد الحجية بحال العلم بها وعدم شمولها للجاهل.

وقد يُشكل عليه بأنه ما هو الفرق بين الحجية وبين الأحكام الواقعية فلماذا يعقل الإطلاق للعالم والجاهل في الأحكام الواقعية بينما لا يعقل ذلك في الحجية، ولمَ لا يقال باللغوية في إطلاق الأحكام الواقعية للعالم والجاهل والحال أنَّ الحكم الواقعي ليس له أثر للجاهل به فيكون جعل الحكم الواقعي في فرض الجهل لغواً ويكون إطلاقه للعالم والجاهل لغواً أيضاً ؟

والجواب عنه أننا ننكر أن يكون إطلاق الحكم الواقعي للعالم والجاهل لغواً وذلك بإعتبار ترتب الأثر على جعل الحكم الواقعي في حق الجاهل وهو التمكن من الإحتياط فإنه يَحتمل الحكم الواقعي وإن لم يكن عالماً به ، وهذا أثر عملي يترتب على إطلاق الحكم الواقعي للعالم والجاهل ، بينما إطلاق الحجية للعالم والجاهل ليس له هذه الثمرة فلا معنى لأن يحتاط الجاهل بلحاظ الحجية إذ ليس لها إحتياط فلا توجد ثمرة عملية تترتب على جعل الحجية في حال الجهل بها فلا يمكن للجاهل أن يلتزم بالمنجزية ولا بالمعذرية ولا يمكنه إسناد الشيء الى الشارع ولا أن يستند الى ما يشك في حجيته ، ومن هنا يقال لا أثر لجعل الحجية في حال الجهل.

وبناءً على هذا يتم ما ذُكر من أنه يمكن الإستدلال على البيان الثاني الذي كانت مشكلته إثباتية ويكون هذا الوجه هو الدليل على تقييد الحجية بحال العلم ومع تقييدها به يتم البيان الثاني إذ لا مشكلة فيه ثبوتاً وتم الدليل عليه إثباتاً ، وهذا يسوغ لنا أن نقول إنَّ الشك في الحجية شرعاً يساوق القطع بعدمها شرعاً، هذا ما قد يُقال.

وجوابه:

أولاً: لو سلَّمنا عدم ترتب الثمرة على جعل الحجية في حال الجهل بها ولكن مع ذلك لا تلزم اللغوية لأنه لا يعني إلا إنّ إختصاص الحجية بحال الجهل يكون لغواً ولا يعني أن يكون إطلاق الحجية لغواً ، ويكفي دفع اللغوية ترتب الثمرة على بعض الأفراد وهذا يبرر لنا أن نقول إنَّ إختصاص الحجية بحال الجهل محال ولغو ، وإذا إنتفت اللغوية فلا يمكن إثبات التقييد.

وثانياً: النقض بالأحكام الواقعية في حق القاطع بالعدم، فهل قطع المكلف بعدم الحكم الواقعي يعني إرتفاعه عنه! الحكم الواقعي ثابت في حق الجميع العالم به والجاهل به والقاطع بعدمه أيضاً ، والحال أنه ليس له ثمرة في حق القاطع بعدمه فهل يقال إنّ إطلاق الحكم الواقعي للقاطع بالعدم محال وبلا فائدة فلابد من تقييد الحكم الواقعي بغيره ؟

هذا لا يمكن التفوه به ، فما يكون به الجواب هنا يكون به الجواب في محل الكلام.

وثالثاً: إنَّ الدليل الذي ذُكر كأنه يفترض مُسبقاً أنَّ الحجية المشكوكة لا يترتب عليها أي أثر ولكنها مصادرة أُخذتْ في الدليل وينبغي النظر فيها أولاً ، فالكلام هنا في أنَّ الحجية مع الجهل بها هل لها أثر أو لا ، فإن قلنا ليس لها أثر لأنَّ الآثار تترتب على الحجية بوجودها العلمي لا بوجودها الواقعي فيثبت أنَّ الشك في الحجية مساوق القطع بعدمها، وبعد ثبوت ذلك يأتي هذا الدليل ويقول إذا ثبت أنَّ الحجية مع الجهل بها ليس لها أثر فنقول إنّ إطلاق الحجية لحالة الجهل يكون لغواً ومحالاً وبلا فائدة ويُستنتج منه إختصاص الحجية بصورة العلم، ولكن إذا فُرض عدم ترتب الأثر فيثبت المطلوب مباشرةً بلا حاجة الى التمسك بالإطلاق.

ومن هنا يظهر أنَّ تمام ما تقدم من البحوث التي أجرينا فيها الأصول والقواعد من دون فرق بين أن تكون هذه الأصول عقلية أو شرعية - كالبراءة العقلية والشرعية - التي تترتب مع إفتراض عدم الحجية تترتب أيضاً مع إفتراض الشك في الحجية فكما تجري البراءة مع عدم الحجية تجري أيضاً مع الشك في الحجية ، فإذا قام خبر الواحد الذي نشك في حجيته على حرمة هذا الشيء فالموقف هو نفس الموقف في حال عدم حجيته فحال الشك في الحجية حال إفتراض عدم الحجية من حيث جريان الأصول العقلية والنقلية.