43/06/04
الموضوع: الظن/المقدمة / إمكان التعبد بالظن/ الإشكال الثالث وجوابه
تقدم ذكر الإشكال الأول على جعل الأحكام الظاهرية وهو أنَّ الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية يلزم من إجتماع الضدين أو المثلين وتقدم الجواب عنه.
وأما الإشكال الثاني فهو لزوم تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة من جعل الحكم الظاهري ، وتقدم الجواب الأول عنه ومفاده هو لا تفويت للمصلحة ولا إلقاء في المفسدة لأنَّ المصلحة الواقعية على تقدير فواتها بجعل الحكم الظاهري هي مُتداركة بمصلحة في نفس الفعل فلا يلزم التفويت ، فالمكلف الذي يأتي بالفعل لا تفوته المصلحة الواقعية لأنها مُتداركة بمصلحة موجودة في نفس الفعل ، هذا هو الجواب الأول وتقدم ما فيه.
والجواب الثاني عنه هو أن يقال إنه وإن لزم من جعل الحكم الظاهري تفويت المصلحة لكنه ليس تفويتاً قبيحاً لأنَّ المصلحة الفائتة متداركة بمصلحة قائمة في نفس جعل الحكم الظاهري لا في الفعل كما في الجواب الأول.
ويلاحظ على هذا الجواب:
إنَّ هذه المصلحة التي فُرض وجودها في نفس جعل الحكم الظاهري إما أن تكون مصلحة طريقية بمعنى أنها راجعة لرعاية المصالح الواقعية الأهم بنظر الشارع عند وقوع الإشتباه والاختلاط فيها عند المكلف فيكون التعبد بالحكم الظاهري لرعاية تلك المصالح الواقعية الأهم عند التزاحم الحفظي فيما بينها فيحفظها الشارع بنحو الجزم واليقين بجعل الحكم الظاهري ، فهذا جواب صحيح وهذا التفويت وإن حصل على المكلف إلا أنه ليس قبيحاً بنظر العقل لأنه حصل لرعاية ما هو أهم من المصالح الواقعية بنظر الشارع.
وأما إذا كانت المصلحة مصلحة نفسية وراء المصالح الواقعية ويدعى أنه يُتدارك بها ما يفوت من المصالح الواقعية نتيجة لجعل الحكم الظاهري فحينئذٍ يلزم منه تفريغ الحكم الظاهري من محتواه الحقيقي، لأن الغرض منه يستوفى بمجرد جعله وليس هناك حالة منتظرة يُترقب من المكلف صدورها، فالمصلحة حاصلة ولو لم يمتثل المكلف ، وهذا يعنى أنه ليس حكماً حقيقياً يقع موضوعاً لحكم العقل بالمنجزية ولزوم الإمتثال ، ومن هنا لا يكون هذا الجواب صحيحاً.
ومنه يظهر أنَّ هذا الجواب الثاني عن الإشكال الثاني يكون تاماً إذا فرضنا أنَّ المصلحة التي يُتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع بجعل الحكم الظاهري هي مصلحة طريقية بالمعنى الذي ذكرناه، وهذا التفويت المتدارك لا يحكم العقل بقبحه، وأما إذا أريد منه المصلحة النفسية القائمة في نفس جعل الحكم الظاهري فيلزم أن لا يكون حكماً حقيقياً يقع موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإمتثال.
الإشكال الثالث: لزوم نقض الغرض
قالوا يلزم من جعل الحكم الظاهري نقض الغرض بإعتبار أنَّ الأحكام الواقعية ثابتة وشاملة للعالم والجاهل لكن الغرض منها سوف يُنقض بجعل الحكم الظاهري ، وهذا الغرض تارة نُفسِّره بالمحركية ، وأخرى نفسِّره بالداعي ، أما تفسيره بالمحركية فبمعنى أنَّ الغرض من جعل الحكم الواقعي هو تحريك العبد نحو الإمتثال فإذا كان الشيء الذي يشك المكلف في وجوبه وإباحته واجباً في الواقع فالغرض هو تحريك المكلف نحو الإتيان بالفعل ، فإذا جعل الشارع الإباحة كحكم ظاهري فيلزم منه نقض الغرض من الحكم الواقعي إذ لا تحريك في جعل الإباحة.
وأما تفسيره بالداعي فبإعتبار أنّ غرض الشارع من جعل الحكم هو تحقق الفعل في الخارج ، فإذا جعل الإباحة ظاهرية فقد نقض هذا الغرض.
وجوابه: أما إذا بُين بلسان نقض المحركية فقد تقدم الجواب عنه وهو أنَّ الحكم الواقعي إنما تكون له المحركية في حالة الوصول الى المكلف ومع عدم علمه به فلا يقتضي منه المحركية وإذا لم يكن الحكم الواقعي مما يقتضي المحركية فلا يكون جعل الحكم الظاهري نقضاً لهذا الغرض.
وأما إذا بُين بلسان نقض الداعي فالجواب كما تقدم هو أنَّ الأحكام الظاهرية جعلت لرعاية المصالح الواقعية والتحفظ اليقيني عليها فكيف يقال أنه يلزم منه نقض الداعي من جعل الأحكام الواقعية ! بل هو يؤكده ويحافظ على المصالح الواقعية الأهم بنظر الشارع عند حصول التزاحم الحفظي بينها ، فلا يلزم من جعل الحكم الظاهري نقض الغرض من الحكم الواقعي بمعنى المحركية وكذلك لا يلزم منه نقض الغرض بمعنى الداعي والملاك والمصالح في الحكم الواقعي.
ومن هنا يظهر أنَّ الإشكالات الثلاثة السابقة ليست واردة على جعل الحكم الظاهري ولا مشكلة في جعله بالرغم من الإلتزام بثبوت الأحكام الواقعية حال الجهل بحيث يلزم منه إجتماع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري ، ولا يلزم من هذا الإجتماع لا التضاد ولا تفويت المصلحة ولا نقض الغرض.
لكن هذا كله مبني على أنَّ الأحكام الظاهرية طريقية بالمعنى المتقدم في الوجه التاسع ، وأما إذ إلتزمنا بالسببية والموضوعية فالمشكلة باقية لأنَّ معنى الإلتزام بعدم الطريقية هو أنَّ مصالح الأحكام الظاهرية غير مصالح الأحكام الواقعية وهي حينئذٍ لا تخلو من إحدى حالات ثلاث:
إما أن تكون المصلحة قائمة في نفس الفعل وإما أن تكون قائمة في سلوك طريق الأمارة وإما أن تكون قائمة في نفس جعل الحكم الظاهري وكلها يلزم منها الإشكال كما مر تفصيله.
فالحل المختار لدفع كل هذه الإشكالات هو الإلتزام بالطريقية بالمعنى المتقدم.
• تأسيس الأصل عند الشك في الحجية
الظاهر أنه لا إشكال عندهم في أنَّ الأصل عند الشك في الحجية هو عدم الحجية وهو أمر مُسلَّم وإنما الكلام في مدرك هذا الأصل وكيفية تخريجه فإنَّ عدم الحجية كالحجية مشكوك ومحتمل فكيف نُثبت عدم الحجية بحيث نُرتب آثار عدم الحجية على مشكوك الحجية ؟
استدل المحقق الخراساني على ذلك بانَّ الشك في الحجية يلازم القطع بعدمها ، فإذا فرضنا صحة هذه الكبرى فيحصل عندنا القطع بعدم الحجية عند الشك فيها.
ومقصوده هو أنَّ الشك في الحجية يلازم القطع بعدم ترتب آثار الحجية ، وأوضح آثارها هي المنجزية والمعذرية فإذا قامت الحجة على التكليف يتنجز على المكلف وإذا قامت على نفي التكليف كانت عذراً للمكلف ، وعندما نشك في الحجية نقطع بعدم ترتب هذين الأثرين وذلك لأنهما من آثار الحجية المعلومة وليسا من آثار الحجية بوجودها الواقعي، فإذا علمتَ بالحجية ترتبت هذه الآثار ويكون ما علمتَ أنه حجة منجزاً ومعذراً وإذا لم تعلم بأنه حجة فحينئذٍ ينتفي موضوع المنجزية والمعذرية لأنَّهما من آثار الحجية المعلومة ومع الجهل لم يتحقق الموضوع - وهو الحجية مع العلم بها - فالشك بالحجية يساوق القطع بعدم ترتب آثار الحجية أي يساوق القطع بعدم الحجية.
هذا هو التخريج الذي ذكره المحقق الخراساني قده.