43/05/28
الموضوع : الظن/المقدمة / إمكان التعبد بالظن/ الشبهة الثانية
كان الكلام في الشبه الثانية وهي شبهة تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، والكلام في المصلحة السلوكية كجواب عن هذه الشبهة ، والتقريب الثاني لها يقول إنَّ الذي يفهم من كلام الشيخ الأنصاري هو أنّ التعبد بالأمارة إما أن يكون في فرض إنسداد باب العلم بالأحكام الشرعية وإما أن يكون في فرض إنفتاح باب العلم بها ، وعلى الأول فالكلام يقع في إمكان جعل الحجية والتعبد بالأمارة أو عدم إمكانه.
والجواب لا إشكال في إمكانه لأنَّ المفروض هو إنسداد باب العلم على المكلف ، وفي مثله يدور أمره بين أن يهمل إمتثالها وهذا لا يمكن التفوه به ، وبين أن يحتاط وهذا إما يوجد إجماع على عدم وجوبه أو عدم جوازه في بعض الصور للزوم العسر والحرج واختلال النظام ، فلا سبيل في هذا الفرض إلا إتباع الطرق الظنية ، فجعل الشارع الأمارة حجة أمرٌ ممكن بل يكون ضرورياً في فرض الإنسداد.
وعلى الثاني - أي الإنفتاح باب العلم - بمعنى أن المكلف يتمكن من تحصيل العلم بالأحكام الشرعية ، فهل يمكن أمره بإتباع الأمارة والحال أنه يلزم منه تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة لأنه لو لم يُعبِّده بالأمارة لسلك الطرق العلمية ولتنجب المفسدة الواقعية ولحصل على المصلحة الواقعية ، فالتفويت والإلقاء جاء نتيجة لجعل الحكم الظاهري أي نتيجة التعبد الشرعي بالأمارة.
وهنا يقول الشيخ الأنصاري : تارة نفترض أنَّ تعبد الشارع بالأمارة يكون بلحاظ كاشفيتها عن الواقع، وأخرى يكون بلحاظ مصلحة تحدث بسبب قيام الأمارة لا بلحاظ الكشف عن الواقع.
وعلى الأول فتارة نفترض أنَّ الشارع يعلم بدوام موافقة الأمارة للواقع ، وأخرى نفترض أنه يعلم بغلبة مطابقتها للواقع ، وثالثة أن نفترض أنه يعلم بأنها أغلب مطابقة للواقع من الطرق العلمية التي يتيسر للمكلف تحصيلها، والفرض الأول لا مشكلة فيه لفرض دوام إصابة الأمارة للواقع فلا تفويت أصلاً ، وكذا لا ضير في جعل الحجية للأمارة في الفرض الثالث لإفتراض أغلبية الإيصال فيها فلا يفوت المكلف شيء لم يكن ليفوته بقطع النظر عن جعل الحجية للأمارة ، نعم يرد الإشكال في الفرض الثاني ، هذا كله في جعل الشارع الحجية للأمارة بإعتبار كاشفيتها.
وعلى الثاني - أي جعل الحجية للأمارة في فرض الإنفتاح لوجود مصلحة تحدث بسبب قيام الأمارة - فلا قبح بالتعبد بهذه الأمارة إذا فرضنا أنَّ هذه المصلحة مما يُتدارك بها المصلحة الواقعية الفائتة على المكلف لوضوح أنه لا تفويت بعد فرض التدارك أو لا قبح في التفويت مع وجود المصلحة ، وهنا يقول الشيخ الأنصاري أنَّ المصلحة تكون بمقدار ما فات المكلف من المصلحة الواقعية ، وهذا يختلف بإختلاف الموارد فقد يفوته بعض مصلحة الواقع فيُعوض بحسب الفائت.
هذا ويدفع الشيخ محذور السببية والتصويب بأنَّ المصلحة لا تحدث في الفعل وإنما المصلحة في سلوك طريق الأمارة لا في متعلق الحكم نفسه ، ويمكن التعبير عنه بأنَّ المصلحة تحدث في الفعل ولكن بالعنوان الثانوي ، فيبقى الفعل بعنوانه الأولي لا مصلحة فيه ، فصلاة الجمعة مثلاً بعنوان أنها صلاة الجمعة لا مصلحة فيها ولكنها بعنوان إتباع الأمارة تحدث فيها مصلحة ولا يلزم من ذلك التصويب وإنما يلزم إذا تغيّر الفعل بعنوانه الأولي عن واقعه بسبب قيام الأمارة.
فهناك تفسيران لكلام الشيخ : فتارة نقول أنه يرى أنَّ المصلحة قائمة في سلوك طريق الأمارة وكأنه أمر منفصل عن الفعل ، وأخرى نقول أنه يرى أنَّ المصلحة في الفعل لكن بالعنوان الثانوي.
وهذه المصلحة السلوكية التي إختارها الشيخ الأنصاري - والظاهر أنّ المحقق النائيني إختارها أيضاً - مبنية على إنفتاح باب العلم إذ لا يرد الإشكال على التعبد بالأمارة في فرض الإنسداد أصلاً بل لعله يكون ضرورياً ، فالمصلحة السلوكية حلٌ مقترح لإشكال تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة بعد فرض إنفتاح باب العلم.
ويمكن التأمل في ما ذُكر بأنَّ الظاهر أنه مبني على إفتراض أنَّ المراد من الإنفتاح هو التمكن من الوصول الى الواقع بمعنى أنَّ المكلف في ظرف تمكنه من الوصول الى الواقع تُجعل له الأمارة حجة ، وهو صحيح ، إذ يمكنه تجنب المفسدة وإدراك المصلحة الواقعية فإذا جعلت له الأمارة حجة وهي قد تخطئ الواقع فيلزم منه تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة، ولكن الصحيح أنَّ المراد من الإنفتاح هو إنفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية ومن الواضح أنَّ العلم قد يصيب الواقع وقد يُخطئه كالأمارة وبهذا المعنى نتكلم في إمكان جعل الحجية للأمارة أو عدم إمكانه.
وهنا نقول ما هي المشكلة في جعل الحجية للأمارة إذا فرضنا أنها أقل خطأً للواقع من الطرق العلمية ، أو كانت مساوية لها في إصابة الواقع ؟
وبعبارة أخرى أنَّ المكلف بقطع النظر عن جعل الحجية للأمارة سيقع في مخالفة الواقع بسلوكه الطرق العلمية وسوف يقع في المفسدة وتفوته المصلحة الواقعية ، والأمارة كذلك ، وإذا فرضنا أنها أكثر إصابة للواقع من الطرق العلمية فلا ينبغي التشكيك في إمكان جعل الحجية لها بلا أي محذور ، وكذلك لا ينبغي الإشكال إذا كانت مساوية ، نعم إذا كانت أقل إصابة للواقع من الطرق العلمية فيمكن أن يأتي هذا الإشكال.
وبالرغم من ذلك يمكن دفع الإشكال في هذا الفرض أيضاً بأن نقول إنَّ سلوك طريق الأمارة وإن كان أقل إصابة للواقع من الطرق العملية ولكن يمكن تعويض المكلف بمصلحة نوعية عامة هي مصلحة التسهيل إذ لا إشكال في أنَّ إلزام المكلف بسلوك الطرق العلمية فيه حرج شديد على نوع المكلف ، وهذه مصلحة نوعية تعود منفعتها على عامة المكلفين ، فلا يكون في جعل الحجية للأمارة - حتى في فرض كونها أقل إصابة للواقع من الطرق العلمية المتيسرة للمكلف - أي محذور.
والحاصل أننا كما لا نحتاج الى الإلتزام بالمصلحة السلوكية بناءً على فرض الإنسداد كذلك لا نحتاجه على فرض الإنفتاح ، وكما لا قبح في التعبد بالأمارة على الإنسداد كذلك لا قبح في التعبد بالأمارة على الإنفتاح ، إذ لا يراد به التمكن من تحصيل الواقع حتى يقال أنه مع تمكنه من إدراك الواقع ومصلحة الواقع يكون التعبد بالأمارة الظنية - التي قد تُخطئ الواقع - تفويتاً للواقع على المكلف مع تمكنه من تحصيله ، وهو قبيح ، بل المراد التمكن من تحصيل العلم بالواقع وهو أيضاً قد لا يصيب الواقع ، إذن إحتمال الخطأ موجود في كل منهما ومعه لا قبح في التعبد بالأمارة إذا فُرض علم الشرع بتساوي الخطأ فيهما أو كونه أقل في الأمارة فإنه لا يلزم من التعبد بها حينئذٍ تفويت مصلحة واقعية لم تكن فائتة قبل التعبد بالأمارة وبقطع النظر عنها ، بل حتى إذا فرض كون الخطأ في الأمارة أكثر فإنه يمكن إفتراض تدارك ذلك الخطأ الزائد بمصلحة التسهيل النوعية.
ملاحظة أخرى: ذُكر في المصلحة السلوكية أنَّ التعويض يكون بمقدار ما فات على المكلف ، ولذا قالوا إذا عمل بالأمارة وتبين له خطؤها والتفت الى الحكم الشرعي الواقعي في داخل الوقت فلا يعوض بمصلحة تمام الوقت كما لو صلى الجمعة عملاً بالأمارة ثم إنكشف لها خطؤها في الوقت وأنَّ الواجب الواقعي هو الظهر ، فالذي فاته هو مصلحة فضيلة أول الوقت - لتمكنه من الإتيان الفعل - فيعوض بهذا المقدار ، وأما إذا إنكشف له الواقع في خارج الوقت فيعوض بمصلحة تمام الوقت ، والملاحظة تقول أن سلوك الأمارة هو بمعنى العمل على طبقها وهذا لا يختلف بإختلاف أوقات إنكشاف الخطأ ، فمصلحة سلوك طريق الأمارة حاصلة بالعمل بها من دخلٍ لوقت إنكشاف الخطأ بنحو يوجب التفاوت فيها ، نعم لو كانت هذه المصلحة تفضلاً من المولى أمكن القول بتفاوتها بحسب مقدار ما فات على المكلف منها.