الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الظن/المقدمة / إمكان التعبد بالظن/ الشبهة الثانية

تبين مما تقدم أنه يمكن الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية من دون الوقوع في الشُّبه السابقة ، بمعنى عدم لزوم إجتماع الضدين ولا إجتماع المثلين كما لا يلزم التصويب أيضاً.

بل ظهر مما تقدم عدم التضاد بلحاظ المحركية بإعتبار أنَّ محركية الحكم الواقعي شأنية لعدم الوصول كالإرادة والحب ، والمحركية الفعلية في ظرف الجهل والإشتباه هي للحكم الظاهري ومن الواضح أنه لا مانع من إجتماع المحركية الشأنية للحكم الواقعي مع المحركية الفعلية للحكم الظاهري.

فالجواب الذي تقدم بلحاظ مبادئ الحكم من الإرادة والكراهة والحب والبغض يأتي نفسه في محركية الحكم الواقعي وهو أنه لا تضاد بين المحركية الثابتة من جهة الحكم الواقعي وبين المحركية الثابتة من جهة الحكم الظاهري ، وهذا هو المراد من قولهم: (لا تضاد بين الحكم الواقعي والظاهري في المبدأ كما لا تضاد بينهما في المنتهى) أي لا يوجد تضاد في مبادئ الأحكام ولا يوجد تضاد في عالم الإمتثال والمحركية ، وعللوا ذلك بعدم وصول الحكم الواقعي ، والحكم غير الواصل لا يستتبع محركية فعلية حتى يكون منافياً للمحركية الفعلية التي يقتضيها الحكم الظاهري.

هذا كله بناءً على أنَّ الحكم الظاهري حكم طريقي بمعنى أن الحكم الظاهري يُجعل لضمان حفظ الأحكام الواقعية الأهم عند التزاحم ، فهو حكم لم ينشأ من مصلحة في نفس جعله ولا من مصلحة فيما يتعلق به وإنما نشأ من رعاية المصالح الواقعية المتزاحمة في مقام الحفظ.

وأما إذا لم نفترض الطريقية في الحكم الظاهري فأي محاولة تُذكر لإثبات إمكان الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي سوف تستلزم إما الوقوع في محذور السببية والموضوعية في الحكم الظاهري وإما الوقوع في محذور تفريغ الحكم الظاهري عن كونه حكماً حقيقياً يقع موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإمتثال ، وتوضيح ذلك:

المحاولات التي تذكر لذلك - أي من دون إفتراض الطريقية في الحكم الظاهري - هي محاولتان:

المحاولة الأولى: القائلة بأنَّ مصلحة الحكم الظاهري قائمة في نفس جعله بنحو يتحقق الغرض والمصلحة منه بمجرد جعل المشرع له ولا إرتباط له بعالم الإمتثال.

وهذه المحاولة وإن دفعت محذور التضاد بإعتبار أنَّ مبدأ الحكم الواقعي قائم في الفعل ومبدأ الحكم الظاهري قائم في نفس جعله لكنها تستلزم عدم كون الحكم الظاهري حكماً حقيقياً بحيث يقع موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإمتثال.

المحاولة الثانية: القائلة بالمصلحة السلوكية بمعنى أنَّ المصلحة قائمة في سلوك طريق الأمارة لا في الفعل وإلا لزم محذور إجتماع الضدين أو المثلين ولا في نفس الجعل حتى لا يلزم تفريغ الحكم الظاهري عن حقيقته ، وهذا ما ذكره الشيخ في الأحكام الظاهرية في باب الأمارات.

وقد يُعبَّر عنها بأنَّ مصلحة الحكم الظاهري تتعلق بالفعل لكن بعنوانه الثانوي وهو عنوان سلوك طريق الأمارة ، وكأنَّ تعدد العنوان يرفع غائلة إجتماع الضدين ، فالمصلحتان تتعلقان بالفعل لكن بعنوانين عنوان الفعل الأولي وعنوان إتباع وسلوك طريق الأمارة.

وعليه يمكن أن يكون الفعل الواحد حراماً واقعاً بعنوانه الأولي وواجباً ظاهراً إذا قامت الأمارة على وجوبه ولكنه بعنوان سلوك طريق الأمارة.

ويأتي التعرض لهذه المحاولة في جواب الشبهة الثانية وهي شبهة تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، وقد فرض الشيخ الأنصاري أنَّ في الفعل - الذي دلت عليه الأمارة - مصلحة يُتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع ، فقد تفوت على المكلف مصلحة أول الوقت أو مصلحة الأداء فيُتدارك بها هذه المصلحة الفائتة.

ولكن هذا نوع من سببية الأمارة في وجود مصلحة في الفعل بخلاف القول بالطريقية الذي لا نظر له الى الفعل وإنما هو طريق لإحراز المبادئ الأهم عند التزاحم ، وقد تقدم أنَّ الأحكام الظاهرية إن لم نلتزم بكونها طريقية فلابد أن نلتزم بكونها أحكام غير حقيقية ولا تقع موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإمتثال أو نلتزم بالمحاولة الثانية ونقع في محذور السببية ، فبسبب قيام الأمارة تحدث مصلحة لم تكن موجودة سابقاً.

مضافاً الى أن المصلحة السلوكية يصعب تصورها فيما إذا فرضنا أن الفعل كان حراماً في الواقع وقامت الأمارة على إباحته فإنَّ الإباحة لا تقتضي سلوكاً معيناً حتى تكون المصلحة قائمة في سلوك الأمارة - إلا بتوجيه - بينما يمكن تصورها إذا دلت الأمارة على الوجوب وكان الشيء حراماً في الواقع.

الشبهة الثانية: لزوم تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة من جعل الحكم الظاهري

بناءً على ذكرناه من أنَّ الأحكام الظاهرية هي أحكام يجعلها الشارع بإعتبار أهمية الأغراض الواقعية عند التزاحم بينها لحفظ الأهم منها فلا يرد هذا الإشكال ، إذ لا ضير في تفويت غرض واقعي على المكلف من أجل غرض واقعي آخر أهم منه بنظر الشارع ، فإذا فرضنا أن مبادئ الأحكام الإلزامية - كالحرمة - كانت أهم بنظر الشارع فعندما تتزاحم مع المباحات الواقعية يأمر الشارع المكلف بالإحتياط بترك ما يحتمل أنه حرام ، وهذا الحكم الظاهري بالإحتياط وإن شمل المباح الواقعي وفوَّت على المكلف مصلحة إطلاق العنان ولكن لا مشكلة في ذلك بإعتبار مراعاة الأحكام الإلزامية ومبادئها الأهم بنظر الشارع.

ولكنهم حيث لم يؤمنوا بهذا الجواب أجابوا عن هذا الإشكال بجوابين:

الجواب الأول: أنَّ ما فات على المكلف مُتدارك بمصلحة مساوية أو أأكد من المصلحة الفائتة فلا فوات ، لأنَّ القبيح هو تفويت الواقع على المكلف ومع التدارك لا يحكم العقل بقبحه.

لكن هذا الجواب مبني على السببية وحدوث مصلحة بقيام الأمارة لم تكن موجودة ، ولا يأتي هذا الجواب بناءً على الطريقية.

الجواب الثاني: الإلتزام بأنَّ هذا التفويت لا قبح فيه وذلك بجعل المصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري وإن كان الفعل خالياً من المصلحة ومشتملاً على المفسدة فقط بمقتضى كونه متعلق الحرمة الواقعية ، فالمصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري وإن إستلزم إيقاع المكلف في المفسدة في بعض الأحيان ، وهذا لا قبح فيه.

والجواب الأول كان يدعي إرتفاع موضوع التفويت وذلك بجعل المصلحة في الفعل يُتدارك به ما فات على المكلف ، والجواب الثاني يعترف بحصول التفويت ولكنه يرى أنه ليس قبيحاً لوجود مصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري.

ومن هنا كان الإشكال على الجواب الأول هو لزوم التصويب لأنه يدعي حدوث شيء في الفعل بسبب قيام الأمارة ولم يكن موجوداً سابقاً ، وهذا يعني حصول التبدل في الواقع وهو نوع من التصويب والسببية ، بخلاف الجواب الثاني فلا تصويب فيه وهذا التفويت أو الإيقاع في المفسدة ليس قبيحاً لوجود مصلحة قائمة في نفس جعل الحكم الظاهري ، ولكن يلزمه تفريغ الحكم الظاهري عن كونه حكماً حقيقياً يقع موضوعاً لحكم العقل بلزوم الإمتثال.