الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/05/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/المقدمة/إمكان التعبد بالظن/ الوجه التاسع

كان الكلام في الإشكال الذي أورد على الوجه التاسع لدفع محذور التضاد وحاصله:

سلمنا أنَّ إشكال التضاد يرتفع بلحاظ المصالح والمفاسد بمعنى أنَّ ملاك الحكم الواقعي مع الجهل به لا يجتمع مع ملاك الحكم الظاهري في مورد واحد فلا تضاد ، فالوجوب الواقعي فيه مصلحة في متعلقه والإباحة الظاهرية لا مصلحة فيها بمعنى أنَّ ملاك الحكم الظاهري ليس قائماً في الفعل ، فلا يجتمع الضدان بجعل الحكم الظاهري.

والإشكال يقول سلمنا ذلك بلحاظ المصالح والمفاسد ، ولكن يلزم إجتماع الضدين - أو المثلين - بلحاظ مبادئ الحكم من الحب والبغض والإرادة والكراهة إذ لا يمكن القول أنَّ المباح الواقعي لا يريد المولى فعله بلحاظ الحكم الظاهري بالإحتياط في الشبهة الوجوبية أو لا يريد تركه في الشبهة التحريمية ، فكيف تجتمع إرادة الفعل أو إرادة الترك مع الإباحة الواقعية التي تقتضي إطلاق العنان ؟

فالمباح الواقعي وإن خلا من المصالح والمفاسد الملزمة ولكن تجتمع فيه إرادة إطلاق العنان بمقتضى كونه مباح واقعاً مع الإرادة بعدم إطلاق العنان بمقتضى الإلزام الظاهري فيلزم إما التضاد أو التناقض أو إجتماع المثلين - على إختلاف الموارد - بلحاظ عالم الإرادة والكراهة والحب والبغض لا بلحاظ المصالح والمفاسد.

والجواب عنه:

أولاً: بأن نلتزم بأنَّ مبادئ الحكم الإلزامي الواقعي عند حصول التزاحم الحفظي بينها وبين مبادئ الأحكام الترخيصية ليست موجودة في متعلق الحكم الظاهري ، ففي المثال السابق هناك أحكام إلزامية واقعية ومباحات واقعية وفي صورة الإشتباه والتردد عند المكلف يحصل بينها تزاحم حفظي لأنَّ ما تُحفظ به الأحكام الإلزامية هو الإحتياط الظاهري وما تُحفظ به المباحات الواقعية هو البراءة الظاهرية فيتزاحمان في مقام الحفظ ، فإذا فرضنا أنَّ الشارع جعل الإحتياط كحكم ظاهري فهذا يعني تقديم مبادئ الأحكام الإلزامية على مبادئ الأحكام الترخيصية لأهميتها ولضمان الوصول إليها وسوف يشمل الإحتياط الظاهري المباح الواقعي ، وعليه نقول:

أنَّ مبادئ الأحكام الإلزامية ليست موجودة بأجمعها في متعلق الحكم الظاهري - وهو المباح الواقعي - لما تقدم من أنها لا تتسع دائرتها في صورة الإختلاط والجهل بل تبقى مقصورة على متعلقاتها ، فالحرام هو الخمر الواقعي فقط ، والمباح الواقعي الذي يُشتبه في كونه خمراً لا تتعدى إليه مبادئ الحرمة ، فمتعلق الحكم الظاهري لا توجد فيه جميع مبادئ الأحكام الإلزامية الواقعية الأهم التي لاحظ الشارع أهميتها فحكم بالإحتياط الظاهري.

وبعبارة أوضح نقول كما ردننا الإشكال بلحاظ المصلحة والمفسدة نرده هنا بلحاظ الإرادة والكراهة والحب والبغض، حيث قلنا أنَّ المباح الواقعي يبقى على إباحته الواقعية ومبادئ الأحكام الإلزامية لا تتعلق به ، والحكم الظاهري لا يوجب سريان الأغراض اللزومية الأهم الى المباح الواقعي ، ومع عدم نشوء الحكم الظاهري من ملاك في الفعل فلا تجتمع المصلحة والمفسدة في شيء واحد ولا تجتمع الإرادة والكراهة الحب والبغض كذلك فلا يلزم إجتماع الضدين على جميع مستويات مبادئ الحكم.

ولكن هذا الجواب لا يدفع الإشكال إذ الوجدان شاهد على وجود إرادة مولوية لفعل هذا المتعلق بجعل الإحتياط الظاهري في الشبة الوجوبية أو وجود إرادة مولوية لتركه بجعل الإحتياط الظاهري في الشبهة التحريمية ، لأنَّ الأمر بالإحتياط كاشف عن الإرادة ، فكيف تجتمع إرادة الفعل أو الترك مع إرادة إطلاق العنان أي إرادة عدم الفعل أو عدم الترك بحسب الإباحة الواقعية ، فتعود الشبهة.

فالجواب عن الشبهة بلحاظ المصالح والمفاسد لا يصلح أن يكون جواباً بلحاظ المبادئ الأخرى ، فلابد من جواب آخر عن هذه الشبهة.

وثانياً: سلّمنا أنَّ الحكم الظاهري تنشأ منه إرادة متعلقة بهذا الفعل المشكوك حكمه ، وهي إرادة فعلية حتى وإن كانت طريقية يتوصل بها الشارع الى الغرض الواقعي ، لكن الإرادة الناشئة من الحكم الواقعي هي إرادة شأنية تعليقية معلّقة على الوصول وليست إرادة فعلية ، فالشارع يريد من المكلف إمتثال الحكم الواقعي ولكن بشرط وصوله ، ولا تضاد بين الإرادة الشأنية المعلّقة على الوصول وبين الإرادة الفعلية ناشئة من الحكم الظاهري ، وهكذا الحب والبغض ، فحمل هذه المبادئ على الشأنية يحل الإشكال ، فإذا فرضنا أنَّ هذا المشتَبه حرام واقعاً وجعل الشارع له الإباحة الظاهرية فالحرمة الواقعية لا تولَّد إرادة فعلية لترك هذا الفعل وذلك لعدم وصولها الى المكلف ، فالإرادة المعلَّقة على الوصول لا تنافي الإرادة الفعلية الناشئة من الحكم الظاهري ، وبهذا يُدفع محذور التضاد ، وهذا هو الجواب الصحيح عن هذه الشبهة.

ولكن يبقى السؤال عن الدليل على حمل الإرادة الناشئة من الحكم الواقعي على الإرادة الشأنية ؟

وجوابه إنَّ أدلة إشتراك الأحكام بين العالم والجاهل لا تدل على أكثر من ذلك فإنها لا تعني أنّ الحكم فعلي بحق العالم والجاهل ولا تعني أنَّ الحكم الواقعي تنشأ منه إرادة فعلية تستبع تحريك المكلف وإستحقاق العقاب على المخالفة بالنسبة الى الجاهل كما هي بالنسبة الى العالم ، فلا يشترك العالم والجاهل في فعلية الأحكام الواقعية ولا في فعلية مبادئ هذه الأحكام من الإرادة والكراهة والحب والبغض ، وإنما يشتركان في هذه الشأنية بمعنى أنَّ الحكم الواقعي من شأنه أن يكون محرّكاً للمكلف ومن وراءه إرادة شأنية نحو الفعل أو الترك وهذا التحريك الشأني والإرادة الشأنية يشترك فيها العالم والجاهل ، غاية الأمر أنَّ العالم لا مانع من صيرورة الإرادة فعلية في حقه بخلاف الجاهل فإنَّ جهله بالحكم يكون مانعاً من صيرورة الإرادة فعلية في حقه.

ولذا لم يستشكل أحد في فعلية الحكم الواقعي في موارد العذر العقلي كما إذا قلنا بالبراءة العقلية في الشبهات البدوية فإن الحكم الواقعي فيها محفوظ ولا يعقل أن تكون فعليته فعلية مطلقة لوضوح المنافاة بينها وبين البراءة العقلية ، كما أنه يلزم من عدم الفعلية أصلاً التصويب فيتعين الإلتزام بأنَّ ما يشترك فيه العالم والجاهل وما يكون محفوظاً في موارد العذر العقلي وفي موارد الشبهات البدوية هو الحكم بمبادئه الشأنية ، ومن الواضح أنّ مثل هذه المبادئ تجتمع مع المبادئ الطريقية الفعلية المستكشفة من الحكم الظاهري ، ففي المثال السابق الإباحة الواقعية في المباح الواقعي محفوظة بمبادئها الواقعية حتى لا يلزم التصويب إلا أنَّ ما هو محفوظ هو إطلاق العنان الشأني لا الفعلي ، أي إطلاق العنان لولا المانع ، ففي موارد وجود المانع تبقى المبادئ شأنية كما في المقام فإنَّ التزاحم الحفظي وأهمية الأغراض اللزومية وجعل اللزوم الظاهري لأجل حفظ تلك الأغراض الأهم يمنع من أن يكون إطلاق العنان في المباح الواقعي الذي تعلق به الحكم الظاهري بالإحتياط فعلياً لإستحالة الجمع بين إطلاق العنان فعلاً في المباح الواقعي مع إرادة فعله أو تركه على نحو اللزوم ، والإلتزام بالفعلية الشأنية للحكم الواقعي ومحركتيه ومبادئه يدفع هذا الإشكال.

وكذا يرتفع التصويب لعدم تغيُّر أو إرتفاع الأحكام الواقعية ولم تتغير مبادئها وإنما يشترك العالم والجاهل في الحكم الواقعي بمبادئه الشأنية.

وهذا الكلام يقال ايضاً في موارد القطع بعدم التكليف وموارد النسيان إذ لا إشكال في بقاء الحكم الواقعي في هذه الموارد ولكنه لا يكون محركاً فعلاً وليس وراءه إرادة مولوية فعلية فلابد أن يكون وجود الحكم الواقعي ومبادئه شأنياً وإنما يكون فعلياً في حالة الوصول الواقعي الى المكلف.

وعليه لا يلزم من جعل الحكم الظاهري في موارد الجهل والإشتباه محذور التضاد وذلك لعدم التضاد بين الحكمين الظاهري والواقعي بلحاظ عالم الإعتبار المجرد عن عالم المبادئ والإمتثال ، ولا بلحاظ عالم المبادئ لعدم وجود مبادئ مستقلة للحكم الظاهري على ما تقدم حتى تتناقض مع مبادئ الحكم الواقعي وإنما هو لأجل حفظ الأهم من المبادئ الواقعية وأنها لا تسري الى غير متعلقاتها ، وأنَّ الإرادة والحب المستكشفان من الحكم الظاهري لا يتنافيان مع إفتراض بقاء الحكم الواقعي بمبادئه في حالة الجهل والإشتباه لأنَّ الحكم الواقعي بما له من المبادئ من الإرادة والحب ليس فعلياً في هذه الحالة حتى ينافي الحكم الظاهري الفعلي في حق المكلف.