الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/05/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الظن/المقدمة/إمكان التعبد بالظن/ الوجه التاسع

تبين مما تقدم أنَّ الوجه التاسع لدفع شبهة التضاد نكتته تتمثل في المقدمة الأولى من مقدماته وحاصلها هو أنَّ الغرض إذا كان مردداً بين أطراف وكان بالغ الأهمية بنحو لا يرضى المولى بفواته ففي هذه الحالة تتسع دائرة محركيته وأما نفس الغرض فلا تتسع دائرته كما أنَّ الحكم الشرعي لا تتسع دائرته ، فلو تعلق الغرض التكويني بإكرام زيد وكان مهماً جداً لا يرضى صاحبه بفواته حتى في صورة الجهل وتردد زيد بين ثلاثة أشخاص فسوف يتحرك لإكرام الثلاثة لضمان حصول الغرض المهم ، لكن ليس معنى ذلك إتساع دائرة الغرض بل هو على حاله متعلق بإكرام زيد بالخصوص لكن محركية الغرض هي التي تتسع وتشمل غير المتعلق وغير الموضوع الواقعي للحكم وللغرض .

وهذا يعني التفكيك بين محركية الغرض وبين الغرض نفسه ، بين محركية الحكم الشرعي وبين الحكم الشرعي الواقعي نفسه ، فإكرام غير زيد المشتبه في أنه زيد ليس فيه مصلحة ولكن مع ذلك يتحرك لإكرامه لضمان تحصيل الغرض المهم ، هذا في الأغراض التكوينية.

وكذا الكلام في الأغراض التشريعية فعندما يكون الغرض التشريعي مهماً للمولى ويحصل الإشتباه والتردد عند المكلف ولا طريق لرفع اشتباهه وتردده أو لا مصلحة في ذلك فلابد من أن يجعل المولى خطاباً ظاهرياً في ظرف الشك والتردد يُضمن به الوصل الى ذلك الغرض الأهم ، وهذا الخطاب هو الحكم الظاهري ، وهذا الحكم قد يتفق أن يكون مخالفاً للتكليف الواقعي المحتمل ، ففي الشبهة التحريمية الخطاب الظاهري المجعول إما بالإحتياط وإما بالبراءة ، فإذا جعل البراءة مثلاً لحفظ المباحات الواقعية المتزاحمة مع الأحكام الإلزامية في مقام الحفظ فقد تكون مخالفة للحكم الواقعي ، وبعبارة أخرى البراءة الظاهرية سوف تشمل الحرام الواقعي ومن هنا نشأت شبهة إجتماع الضدين ، وعلى فرض الإباحة واقعاً يلزم إجتماع المثلين ، ولكن لا مشكلة في أن يُحلل الشارع ظاهراً ما هو حرام واقعاً ، وهذا يتحقق في صورتين:

الصورة الأولى أن يكون الخطاب الظاهري إلزامياً ويكون التكليف الواقعي ترخيصياً ، كالبراءة الظاهرية مع الإلزام الواقعي أما التحريم أو الوجوب ، وهذا الخطاب الظاهري سوف يشمل المباح الواقعي إباحة إقتضائية ، فيكون هذا المشتبه مباح واقعاً وحرام ظاهراً فهل يلزم التضاد من ذلك ؟ وهل يلزم إجتماع المثلين على فرض كونه حرام واقعاً وحرام ظاهراً ؟

والجواب لا يلزم ذلك ، بإعتبار أنَّ الغرض اللزومي الواقعي لا يسري الى غير متعلقه وهذا يعني أنَّ المباح الواقعي يبقى على إباحته الواقعية ولا يتغير بسبب الإشتباه والتردد فلا توجد فيه إلا مبادئ الإباحة الواقعية حتى مع الحكم عليه بالحرمة ظاهراً ، وأما الحكم الظاهري بالحرمة فلم ينشأ من مبادئ في هذا المباح الواقعي حتى يُقال بلزوم التضاد وإنما نشأ من مبادئ الأحكام الواقعية بمعنى أنه نشأ من أهمية الأحكام الإلزامية عندما تتزاحم مع الأحكام الترخيصية في مقام الحفظ التشريعي ، ولأجل ضمان تحقق الغرض الإلزامي يأمر الشارع بالإحتياط.

ونفس الكلام يقال في إجتماع المثلين بأن يكون الفعل حرام واقعاً مع جعل الإحتياط الظاهري فلا يلزم إجتماع المثلين لأن الحرمة الواقعية نشأت من مبادئ في نفس الفعل ولكن الحرمة الظاهرية لم تنشأ من مبادئ في نفس الفعل وإنما نشأت من رعاية ما هو الأهم من الأغراض المتزاحمة ، فلا يلزم إجتماع المثلين أيضاً .

الصورة الثانية أن يكون الخطاب الظاهري ترخيصياً مع التكليف الواقعي الإلزامي ، فيُشكل بإجتماع الضدين ، أو يفرض أن الحكم الواقعي هو الإباحة أيضاً فيلزم إجتماع المثلين.

والجواب هو الجواب فالفعل إذا كان حرام واقعاً فمبادئ الحرمة ثابتة فيه ولكن الإباحة الظاهرية لم تنشأ من ملاك في هذا الفعل حتى يلزم إجتماع الضدين وإنما هي حكم ظاهري يُراد به الحفاظ على ملاكات الأحكام الواقعية الأهم من الملاكات المتزاحمة وهي في هذا الفرض ملاكات المباحات الواقعية ، فلا يلزم لإجتماع الضدين ولا إجتماع المثلين .

هذا كله على فرض أنَّ المقصود من الغرض والملاك هو المصلحة والمفسدة ، فالكلام الى هنا بلحاظ المبادئ على مستوى المصالح والمفاسد ، وهنا يُورد الإشكال بلحاظ المبادئ في مستوياتها الأخرى كالإرادة والكراهة والحب والبغض فيقال بلزوم إجتماع الضدين فيها ، وبيان ذلك:

لو فُرض أنَّ الشارع جعل الإباحة الظاهرية في الشبهة التحريمية فالفعل حرام واقعاً ومباح ظاهراً ، فلو سلَّمنا عدم لزوم إجتماع الضدين بحسب الجواب المتقدم ولكنه لازم بلحاظ الإرادة والكراهة ، فالشارع بجعله الإباحة الظاهرية يريد إطلاق العنان للمكلف ولكن كيف تجتمع هذه الإرادة مع إرادة تركه بمقتضى الحرمة الواقعية ؟

وكذا لو فرضنا العكس بأن كان الحكم الظاهري هو الإحتياط والحرمة الظاهرية وكان الحكم في الواقع هو الإباحة فكيف تجتمع إرادة الترك بمقتضى الإحتياط الظاهري مع عدم إرادة الترك بمقتضى الإباحة الواقعية ؟

فيلزم المحذور على مستوى هذه المبادئ.

وبعبارة أخرى أنَّ الإلزام الظاهري المتعلق بالمباح الواقعي حتى إذا لم يكشف عن مفسدة أو مصلحة واقعية فيه لما ذُكر في هذا الوجه إلا أنه لا يمكن إنكار إنه يكشف عن إرادة المولى صدوره من العبد وحبه لذلك وهذا لا يجتمع مع إباحته الواقعية ومبادئها الواقعية.

وبعبارة ثالثة أنَّ المفروض أنَّ الأحكام الظاهرية أحكام حقيقية تنشأ من الإهتمام المولوي بحفظ المبادئ الواقعية المناسبة لها فكيف يُتصور عدم تحقق الإرادة والكراهة بمتعلقاتها ، وهل يجوز القول أنَّ المولى لا يريدها من المكلف ؟! وإذا كان الأمر كذلك لزم من إجتماعها مع الإباحة الواقعية محذور التضاد.

والجواب عنه بإنكار وجود جميع مبادئ الحكم الواقعي في متعلق الحكم الظاهري حتى الإرادة والكراهة ، ويتضح ذلك من خلال التمييز بين مبادئ الحكم الواقعي وبين مبادئ تنشأ من حفظ المبادئ الواقعية الأهم بنظر المولى ، بمعنى أنَّ الإرادة أو الكراهة وإن كانتا موجودتين ومتعلقتين بالفعل الذي هو متعلق الحكم الواقعي ولا يمكن إنكار ذلك لكن هذه الإرادة والكراهة غير الإرادة والكراهة التي هي مبدأ الحكم الواقعي أي أنَّ المولى وإن كان يريد من العبد الفعل أو الترك ولكنها إرادة طريقية تنشأ من الإرادة الواقعية المتعلقة بالواجب أو الحرام الواقعي ، فالمولى لأنه يريد الواجب الواقعي ويهتم به ولا يرضى بفواته أراد فعل المباح الواقعي في صورة الإشتباه والتردد ، ففي المباح الواقعي إرادة ومبادئ متعلقة به بإعتبارها مبادئ الحكم الواقعي وهناك إرادة طريقية ومبادئ طريقية أخرى تتعلق به بإعتبار الحكم الظاهري ، وبهذا الإعتبار لا تلزم شبهة التضاد.