43/05/21
الموضوع: الظن/المقدمة/إمكان التعبد بالظن/ الوجه التاسع
إنتهى الكلام الى القسمين المتصورين في إجتماع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ، وهما:
القسم الأول: أن نفترض أنَّ الحكم الظاهري كان إلزامياً - الإحتياط - وأنَّ الحكم الواقعي كان ترخيصياً ، وهذا يتحقق في الشبهتين التحريمية والوجوبية إذا جعل الشارع الإحتياط حكماً ظاهرياً ، ولنفترض أنَّ الحكم الواقعي في الشبهة الوجوبية هو الترخيص فهنا وجوب ظاهري مع ترخيص واقعي.
وكذا الكلام في الشبهة التحريمية بأن نفترض حكم الشارع بالإحتياط ولزوم الترك، فهنا حرمة ظاهرية مع ترخيص واقعي.
القسم الثاني: أن نفترض أنَّ الحكم الظاهري كان ترخيصياً وأنَّ الحكم الواقعي كان إلزامياً أي الوجوب أو التحريم.
أما القسم الأول وهو الحكم الظاهري الإلزامي مع الحكم الواقعي الترخيصي كما إذ فرضنا أنَّ ملاك الأحكام الإلزامية أهم من ملاك الإباحة الواقعية فيحكم الشارع بالإحتياط ظاهراً حتى يضمن تحقق الغرض الأهم ، فجعل الحكم الظاهري بالإحتياط في مورد إشتباه الأمر على المكلف وعدم تمييزه بين الحرام والحلال في الشبهة التحريمية وكذا بين الواجب والمباح في الشبهة الوجوبية مع فرض عدم وجود طريقة أمام المولى لرفع إشتباه المكلف أو توجد طريقة ولكن لا يرى مصلحة في رفع الإشتباه عنه ، فهل يلزم من جعل الحكم الظاهري بالإحتياط مع فرض بقاء الحكم الواقعي في حال الجهل وإلا لزم التصويب الباطل إجتماع الضدين أو المثلين؟
الجواب: لا يلزم ذلك ، وذلك لما إتضح في المقدمة الأولى التي تقول أنَّ الغرض الواقعي الأهم لا تتسع دائرته فيشمل غير متعلقه وإنما تتسع محركيته فقط لتشمل محتمل الوجوب في الشبهة الوجوبية أو محتمل التحريم في الشبهة التحريمية لضمان الحصول على الأغراض الواقعية الأهم على نحو الجزم واليقين.
وبناءً عليه نقول أنَّ مبادئ الحكم الواقعي لا تسري الى هذا المشكوك وتبقى متعلقة بمصبها الواقعي كالشك في حرمة أكل لحم الأرنب فإذا فرضنا أنَّ الحكم الواقعي هو الترخيص فمبادئ الحكم تختص بموردها وهو ما تعلم أنه أكل لحم الأرنب وأما ما يُشك في أنه أكل لحم الأرنب وعلى تقدير أنه ليس كذلك فلا يتعلق به مبدأ الحكم الواقعي لأنه لا يسري الى المشكوك ، والحكم الظاهري بالإحتياط هنا لا يُضاد الحكم الواقعي لعدم وجود مبادئ خاصة به يُفرض تعلقها بنفس الفعل ومن ثم يقال بإجتماع الضدين إذا إختلفا أو المثلين إذا إتفقا ، وإنما مبادئ الأحكام الظاهرية هي نفس مبادئ الأحكام الواقعية وإنما تُجعل لضمان تحقق الأغراض الواقعية جزماً ، فترتفع بذلك شبهة إجتماع الضدين أو المثلين.
وكذا لا يلزم التصويب لعدم إرتفاع أو تبدل أو إتساع الأحكام الواقعية بجعل الحكم الظاهري.
وأما القسم الثاني وهو إذا كان الحكم الظاهري ترخيصياً - البراءة - وكان الحكم الواقعي هو الإلزام ، وذلك بأن يجعل الشارع البراءة في الشبهة الوجوبية أو التحريمية لأنَّ ملاكات المباحات الواقعية أهم بنظره من ملاكات الأحكام الإلزامية المختلطة فيُطلق العنان للمكلف في هذه الشبهات ، فجعل الإباحة هنا لا يلزم منه إجتماع الضدين أو المثلين ولا يلزم منه التصويب الباطل ، أما عدم لزوم التصويب فلما قلناه من أنَّ الأحكام الواقعية لا تتغير ولا تتبدل ولا تتسع بلحاظ غرضها وإنما الإتساع يكون في محركية الغرض الواقعي فقط لضمان الوصول الى المصالح الواقعية الأهم بنظر الشارع.
وأما عدم لزوم إجتماع الضدين أو المثلين فلما تقدم من أنَّ الحكم الواقعي يبقى ملاكه محفوظاً وثابتاً في حق العالم والجاهل ويكون متعلقه هو الفعل فإذا كان حراماً في الواقع ففيه مبادئ الحرمة الواقعية وأما جعل الشارع للإباحة الظاهرية فليس ناشئاً من ملاك في الفعل وإنما ينشأ بإعتبار أهمية المباحات الواقعية المختلطة ولضمان الوصول إليها على نحو الجزم واليقين فيجعل الشارع البراءة وبذلك يضمن مصلحة إطلاق العنان للمكلفين حتى لا يقعوا في ضيق وعسر ، وهذا قد يستلزم في بعض الأحيان إطلاق العنان للمكلف في ترك الواجب الواقعي أو فعل الحرام الواقعي ولكن ضير فيه بإعتبار الترجيح بالأهمية.
هذا كله في التزاحم في الإباحة الإقتضائية.
وأما إذا فرضنا أنَّ الإباحة كانت لاإقتضائية وهي التي لا تنشأ من مصلحة في إطلاق العنان وإنما تنشأ من عدم وجود ما يقتضي الإلزام بالفعل أو الإلزام بالترك ، فهذه الإباحة لا تزاحم الحكم الإلزامي الذي فيه إقتضاء الإلزام أساساً لأنَّ ما لا إقتضاء فيه لا يُزاحم ما فيه الإقتضاء والتقديم دائماً يكون لما فيه الإقتضاء.
هذا هو الوجه التاسع لدفع الشبهة وبه نختم الكلام عن الوجوه لدفع شبهة التضاد.
وقد ظهر مما تقدم أنَّ نكتة دفع إشكال التضاد تكون بتصور حكم ظاهري له مبادئ حقيقية في نفس المولى - لا في الفعل ولا في نفس جعله - ولذلك يقع موضوعاً لحكم العقل بوجوب الطاعة والإمتثال ، ولا تكون هذه المبادئ مضادة مع مبادئ الحكم الواقعي بل قابلة للاجتماع معها في موارد الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي ، وقد عرفتَ أنَّ بعض الوجوه المتقدمة حاولت الإجابة عن شبهة التضاد إما بتفريغ الحكم الظاهري من المبادئ كُلاً بحيث يُصبح مجرد إنشاء أجوف لا قيمة له ، وإما بدعوى أنَّ مبادئه في نفس جعله حتى لا يلزم التضاد ، وإما بملاحظة القيود والكيفيات اللحاظية الذهنية المتعددة ودعوى أنَّ تعددها يدفع المحذور مثل العنوان الأولي والعنوان الثانوي وقد تقدم الجواب عنه سابقاً.