الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/05/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/المقدمة/إمكان التعبد بالظن/ الوجه التاسع

كان الكلام في الوجه التاسع لدفع محذور التضاد ، وله مقدمات حاصلها :

المقدمة الأولى: إنَّ الأغراض بشكل عام - الشرعية والتكوينية - إذا بلغت درجة عالية من الأهمية بحيث لا يرضى صاحب الغرض بتفويتها حتى في فرض الجهل فحفظها يكون بتوسعة دائرة محركية الغرض مع بقاء نفس الغرض على متعلقه الواقعي ، فإذا كان إكرام العدول مثلاً مما يهتم به المولى فالحفاظ عليه يستدعي أن يأمر بإكرام من تعلم أنهم عدول ومن تحتمل فيهم ذلك ، وذلك بجعل الخطابات الظاهرية كجعل الإحتياط في الأغراض الشرعية ، وبأن يتحرك صاحب الغرض نفسه لإكرام دائرة أوسع من العادل الواقعي في الأغراض التكوينية وبذلك يضمن الوصول الى الغرض الواقعي.

المقدمة الثانية: في بيان أنواع التزاحم وهي التزاحم الملاكي والإمتثالي والحفظي ، والكلام في التزاحم الحفظي ، فلو كان هناك خطابان أحدهما (يجب إكرام العدول) والآخر (يحرم إكرام الفساق) فالموضوع هنا متعدد فلا يكون من التزاحم الملاكي لأنَّ المناط فيه هو وجود ملاكين في موضوع واحد ، كما أنه ليس من التزاحم الإمتثالي لوضوح إمكان الجمع بين الإمتثالين وذلك بإكرام العدول وترك إكرام الفساق وهذا بخلاف التكليف بإنقاذ الغريق مع التكليف بعدم الغصب إذ لا يمكنه إمتثالهما معاً ، وإنما الواقع هنا هو التزاحم الحفظي فيما لو وقع الإشتباه والاختلاط خارجاً بأن لم يتميز العادل من الفاسق لدى المكلف ، فهنا الغرض الواقعي في الوجوب يُحفظ بجعل حكم ظاهري بوجوب إكرام كل من يُحتمل كونه عادلاً فيصل المولى الى الغرض الواقعي يقيناً ، والغرض في التحريم يُحفظ بجعل خطاب ظاهري بحرمة إكرام كل من يُحتمل كونه فاسقاً ، وفي صورة الإختلاط لا يمكن للمولى أن يضمن تحقق كِلا الغرضين معاً لأنَّ الخطاب الظاهري المجعول إما بوجوب إكرام من يُشَكُ في عدالته وفسقه أو بحرمة إكرامه ولا يمكن الجمع بينهما فيقع التزاحم بين الغرضين في مقام الحفظ التشريعي ، وكل غرض يدعو الى حفظه بجعل الخطاب الظاهري المناسب له وما يُحفظ به أحد الغرضين غير ما يحفظ به الآخر ومع عدم إمكان الجمع يقع التزاحم بينهما هو تزاحم في مقام الحفظ ، وهنا يراعي المولى الغرض الأهم ويجعل الحكم الظاهري على وفقه ، فإذا فرضنا أنَّ الغرض الوجوبي هو الأهم فيجعل حكماً ظاهرياً بوجوب إكرام مشكوك العدالة ليضمن الحفاظ عليه ، نعم هذا سوف يفوِّت في بعض الأحيان الغرض التحريمي ولكن لا باس بذلك لأنه أقل أهمية بالنسبة الى الغرض الوجوبي ، وكذا لو فرض العكس بأن كان الأهم هو الغرض التحريمي.

والمهم في هذه المقدمة هو أنَّ التقديم بالأهمية في التزاحم الحفظي لا يعني إلغاء الغرض الآخر - المهم - وإسقاطه عن الفعلية وإنما يعني تقييد محركيته واختصاصها بالمعلوم ، وأما المشكوك فيدخل مع المعلوم في دائرة محركية الغرض الأهم ، وإنما نقول لذلك لعدم وجود ما يقتضي سقوط الغرض الآخر بلحاظ مبادئه لأنّ التزاحم بينهما إنما هو في المحركية لا في المبادئ لتعدد الموضوع ولا في الإمتثال لإمكان إمتثالهما معاً كما تقدم.

المقدمة الثالثة: الإباحة على نحوين إقتضائية و لاإقتضائية ، والمراد هنا هو بيان أنَّ المعقول من أقسام التزاحم هو التزاحم الملاكي و التزاحم الحفظي ، ولا يُعقل التزاحم الإمتثالي في المباحات لأنَّ الإباحة ليس لها إمتثال حتى يقع التزاحم بينها وبين الإلزام في مقام الإمتثال.

نعم يُتصور التزاحم الملاكي في الإباحة الإقتضائية خاصة لأنها تنشأ من ملاك يقتضي إطلاق العنان فيمكن أن نتصور فعلاً فيه ملاك الإلزام من جهة وملاك الإباحة من جهة أخرى فيقع التزاحم بينهما ويقدم أحدهما بالأهمية ، وأما الإباحة اللاإقتضائية فلا يُتصور فيها التزاحم الملاكي لعدم الملاك فيها فلا معنى لإفتراض التزاحم فيها في قِبال الإلزام.

وأما التزاحم الحفظي فتصوره واضح جداً في الإباحة الإقتضائية فالتزاحم في الشبهات الوجوبية والشبهات التحريمية يقع بين الواجبات أو المحرمات الواقعية من جهة وبين المباحات الواقعية من جهة أخرى ويأتي هنا ما تقدم في تصوير التزاحم الحفظي فالوجوب يقتضي أن يُحفظ بجعل الإحتياط الظاهري بالإتيان بما يحتمل أنه واجب والتحريم يقتضي كذلك أيضاً وأن يترك المكلف ما يحتمل أنه حرام هذا في الحكم الإلزامي ، وأما الإباحة الواقعية الإقتضائية فتحفظ بجعل البراءة وإطلاق العنان ظاهرياً وبذلك يُحفظ غرض الإباحة الواقعية ، فما يحفظ به الحكم الإلزامي هو جعل الإحتياط ظاهراً وما تُحفظ به الإباحة الإقتضائية هو جعل البراءة ظاهراً ، ولا يمكن الجمع بينهما في مقام الحفظ فيقدم المولى الأهم منهما ولا مشكلة في فوات الغرض المهم مع الحفاظ على الغرض الأهم.

وأما في موارد الإباحة اللاإقتضائية التي لا تنشأ من ملاك يقتضي الإباحة وإنما تنشأ من عدم وجود ما يُلزم بالفعل أو الترك فلا يتصور فيها التزاحم الحفظي لأول وهلة بإعتبار عدم الملاك الواقعي فيها.

وإذا تمت هذه المقدمات نرجع الى أصل هذا الوجه فنقول:

تارة يكون الحكم الظاهري إلزامياً مع كون الحكم الواقعي ترخيصياً ، ويتحقق ذلك فيما إذا إختلطت المحرمات الواقعية بالمباحات الواقعية - أي في الشبهة التحريمية - فلا يستطيع المكلف تمييز الحرام من المباح ، ولنفترض أنَّ المحرمات الواقعية هي الأهم فالحكم الظاهري هنا هو الإحتياط ، وهو يعني الإلزام بترك ما يُشك في كونه حراماً ، وهو قد يؤدي الى ترك المباح الواقعي ولكن لا مشكلة فيه بعد كونه مرجوحاً.

وأخرى يكون الحكم الظاهري ترخيصياً مع كون الحكم الواقعي إلزامياً ، كما لو فرضنا أنَّ الشارع جعل البراءة في نفس هذا المورد ، وهو يعني أنّ مصلحة إطلاق العنان هي الأهم ، وهذا وإن أدى بالمكلف الى الوقوع في الحرام الواقعي أحياناً لكن لا مشكلة فيه بعد الترجيح بالأهمية.

والكلام يقع في هذين الفرضين.