43/05/10
الموضوع: الظن/المقدمة/إمكان التعبد بالظن/ الوجه التاسع
كان الكلام في الوجه التاسع لحل إشكال التضاد ، ولهذا الوجه مقدمات ذكرنا المقدمة الأولى منها وإنتهينا الى المقدمة الثانية ، ويُذكر فيها أنَّ التزاحم بين الأحكام تارة يكون تزاحماً ملاكياً وأخرى يكون إمتثالياً وثالثة يكون حفظياً.
وتقدم بيان التزاحم الملاكي ويكون فيما لو فرضنا وجود ملاكين في موضوع واحد كلٌ منهما يقتضي أمراً مضاداً لما يقتضيه الآخر ، كما إذا فرضنا أنَّ في الفعل مصلحة ومفسدة فالمصلحة تقتضي المحبوبية والمفسدة تقتضي المبغوضية ومن الواضح أنه لا يمكن أن يؤثر كلا الملاكين تأثيراً فعلياً لأنه يستلزم إجتماع المحبوبية والمبغوضية في شيء واحد وهو غير معقول ، فيقع التزاحم بين الملاكين في مقام التأثير وفي هذه الحالة تلاحظ الأهمية ويُقدم الملاك الأهم منهما ، فإذا فرضنا أنَّ المفسدة أهم فيكون لها التأثير ويسقط الملاك الآخر عن الفعلية ويكون ملاكاً إقتضائياً صرفاً يقتضي المحبوبية من دون تأثير ، فيكون الفعل مبغوضاً لا غير.
وهكذا العكس فلو فرضا أنَّ المصلحة هي الأهم فتؤثر في المحبوبية والملاك الآخر لا يؤثر فعلاً فيه ، فالفعل إما أن يكون محبوباً وإما أن يكون مبغوضاً بحسب الملاك الأهم.
وأما النوع الثاني فهو التزاحم الإمتثالي وفرضه عندما يوجد ملاكين في موضوعين - لا في موضوع واحد - كإنقاذ الغريق المشتمل على المصلحة واجتياز الأرض غصباً المشتمل على المفسدة ، فقد يقع التزاحم بينهما وقد لا يقع كما لو أمكن إنقاذ الغريق من دون اجتياز الأرض غصباً وليس الكلام فيه ، وأما على تقدير وقوع التزاحم في عالم الإمتثال بأن يدعو كل تكليف إلى إمتثاله فهنا تُلاحظ الأهمية في التقديم غاية الأمر أنَّ التقديم هنا يختلف عن التقديم في التزاحم الملاكي فإنه هناك يُسقط الأمر عن الفعلية ويكون الملاك الآخر إقتضائياً ، بينما هنا لا تسقط مبادئ الحكم الآخر عن الفعلية ولذا لا يخرج الحكم المرجوح عن كونه مبغوضاً أو محبوباً في نفسه غاية الأمر أنَّ الشارع أجاز مخالفته مقدمة لتحصيل الحكم الأهم.
وأما النوع الثالث فهو التزاحم الحفظي فهو ليس تزاحماً ملاكياً لتعدد الموضوع ، وليس تزاحماً إمتثالياً لوضح إمكان الجمع بين الملاكين المطلوبين في مقام الإمتثال في التزاحم الحفظي ، ومثال ذلك ما لو وجب إكرام العلماء بدليل وحَرُم إكرام الفساق بدليل آخر وفرضنا حصول الإشتباه خارجاً بأن إشتبه أمرُ زيدٍ بين كونه عالماً فيجب إكرامه أو فاسقاً فيحرم إكرامه ، فهنا الموضوع متعدد (العلماء ، الفساق) وفي مقام الإمتثال يمكن للمكلف الجمع بين الإمتثالين بأن يكرم العالم ويترك إكرام الفاسق وإنما التزاحم في مقام الحفظ بمعنى أنَّ المشرِّع إذا لاحظ حكمان من هذا القبيل وافترض حصول الإشتباه عند المكلف فيلاحظ أنَّ ما يُحفظ به التكليف الأول ومبادئه غير ما يُحفظ به التكليف الثاني ومبادئه ، ومن الواضح أنَّ وجوب إكرام العلماء يُحفظ بأن يؤمر المكلف الشاك بإكرام من يحتمل كونه عالماً لضمان الوصول الى المبادئ والأغراض الواقعية ويتمثل ذلك بجعل الإحتياط الظاهري ، وكذا الكلام في التكليف الآخر فالحفاظ عليه وعلى مبادئه يتمثل بجعل الشارع تكليفاً ظاهرياً بترك إكرام من يحتمل المكلف فسقه لضمان عدم الوقوع في مفسدة إكرام الفساق وضمان عدم فوات الأغراض والملاكات الواقعية لهذا التكليف ، فما يُحفظ به هذا التكليف غير ما يُحفظ به التكليف الآخر ، ولا يمكن أن يجعل الشارع تكليفاً ظاهرياً يحفظ به كِلا التكليفين ومن هنا يُسمى بالتزاحم الحفظي بمعنى وقوع التزاحم بين التكليفين في مقام حفظ الملاكات الواقعية لأنَّ كل تكليف منهما يُحفظ بشيء غير ما يُحفظ به الآخر ، وهذه قضية ترتبط بالمشرِّع ولا شك في أنه يُرجح بالأهمية أيضاً كما في التزاحم الملاكي والإمتثالي فيُقدم ما يراه أهم ويجعل حكماً ظاهرياً يتناسب مع أهمية هذا الحكم وأهمية مبادئه ، فإذا كان وجوب إكرام العلماء هو الأهم فيجعل وجوب إكرام من يُحتمل كونه عالماً لضمان الوصول الى الملاكات الواقعية لهذا التكليف ، وإذا كانت حرمة إكرام الفساق هي الأهم فيجعل حرمة إكرام من يُحتمل فسقه ، فالترجيح هنا بالأهمية أيضاً.
المقدمة الثالثة : إنَّ الإباحة على نحوين فتارة تنشأ من عدم وجود ملاكٍ للإلزام وتسمى (الإباحة اللاإقتضائية) وأخرى تنشأ من وجود ملاك يقتضي إطلاق العنان وتسمى (الإباحة الإقتضائية).
ولا يُتصور التزاحم الإمتثالي في المباحات بشكل عام لأنها ليس لها إمتثال يزاحم الوجوب أو التحريم فلو كان اجتياز الأرض مباحاً فلا يُزاحم وجوب إنقاذ الغريق ، وإنما يكون التزاحم الإمتثالي بين الوجوب والحرمة ، والتزاحم المتصور في المباحات هو التزاحم الملاكي والتزاحم الحفظي.
أما التزاحم الملاكي فيُعقل فيما إذا كانت الإباحة إقتضائية وذلك بأن نفترض فعلاً واحداً واجداً لملاكين أحدهما يقتضي الإلزام والآخر يقتضي إطلاق العنان -كما تصوَّرنا ذلك في الفعل الواجد للمصلحة والمفسدة من جهتين - فيتزاحم الملاكان في مقام التأثير لأنَّ المصلحة الملزمة تقتضي المحبوبية ، وإطلاق العنان يقتضي عدم المحبوبية ، وهنا يمكن أن نفترض أهمية مصلحة إطلاق العنان على المصلحة الملزمة التي تقتضي الوجوب فيتقدم ملاك الإباحة على الملاك الإلزامي في التأثير ويسقط الملاك الآخر عن الفعلية ويكون ملاكاً إقتضائياً صرفاً ، وأما إذا كانت الإباحة غير إقتضائية فلا يُتصور فيها التزاحم الملاكي إذ لا ملاك لها أصلاً حتى يكون مُزاحماً للملاك الملزم.
وأما التزاحم الحفظي فإن كانت الإباحة إقتضائية فيمكن تصور التزاحم الحفظي بينها وبين الحكم الإلزامي وذلك فيما إذا إختلطت على المكلف المباحات مع المحرمات في الخارج بمعنى إحتمال حرمة الشيء كأكل لحم الأرنب ، فالشارع في مقام التشريع يُلاحظ أنَّ المحرمات الواقعية تقتضي أن تُحفظ بجعل الإحتياط ظاهراً ونهي المكلف عن أن يرتكب ما يحتمل كونه حراماً فيضمن بذلك عدم وقوع المكلف في المفاسد الواقعية ، ويلاحظ أيضاً أنَّ الإباحة الإقتضائية تقتضي أن تُحفظ بإطلاق العنان للمكلف بجعل البراءة الظاهرية ، وهذا أمران متضادان لا يمكن أن يُحفظا معاً فيرجع الى الأهمية ويجعل حكماً ظاهرياً بحسب الملاك الأهم بنظره.