43/05/09
الموضوع: الظن/المقدمة/إمكان التعبد بالظن/الملاحظة على الوجه الثامن
كان الكلام في الوجه الثامن الذي يُفصِّل بين الأحكام الظاهرية المثبتة للتكليف وبين الأحكام الظاهرية النافية له ، فالمثبتة للتكليف - من دون فرق بين الإحتياط واستصحاب التكليف والأمارة المثبتة للتكليف - الحكم فيها طريقي الغرض من الإيصال الى الواقع ولا مبادئ له وراء مبادئ الأحكام الواقعية فلا يلزم من جعله إجتماع الضدين.
نعم كل طريق يُراد به الإيصال الى شيء قد يصيبه وقد يُخطئه فإذا أخطأ الوصول الى ذي الطريق فالواقع على حاله لا يتغير ويكون الطريق معذراً ليس إلا ، فلا يوجد في الحكم الظاهري مبادئ خاصة به حتى تكون منافية لمبادئ الحكم الواقعي.
وأما الأحكام الظاهرية النافية للتكليف - كالبراءة واستحساب عدم التكليف والأمارة الدالة على عدم التكليف - فلا يمكن أن نلتزم فيها بما إلتزمنا به في القسم الأول إذ مع نفيها للتكليف لا معنى لكونها طريقاً موصلاً الى الواقع ، فلابد من وجه آخر فيها لدفع شبهة التضاد وهو أن نقول أنَّ هذه الأحكام الظاهرية المرخصة فيها مصلحة ولكنها ليست في المتعلق وإنما هي مصلحة التسهيل وهي مصلحة نوعية عامة تقتضي التسهيل على العباد ، ولا شك في أنَّ مقتضى التسهيل هو جعل أحكام ظاهرية نافية للتكليف عند الشك فيه ، وهنا ترتفع شبهة التضاد أيضاً لأنه لا تضاد بين الحكم الواقعي على تقدير وجوده ومبادئه الموجودة في المتعلق وبين الحكم الظاهري النافي للتكليف الذي ينشأ من مصلحة التسهيل عند التردد والإشتباه لأنهما لم يجتمعا في مورد واحد.
والحاصل: أنه في موارد الأصول النافية للتكليف مثل البراءة - مع فرض ثبوت التكليف واقعاً - وإن كان يمكن أن يوصل الشارع المكلف الى الواقع بجعل الإحتياط لكن مصلحة التسهيل تقتضي رفع الإحتياط وسقوطه بجعل الأصل النافي للتكليف ظاهراً فإنَّ التزاحم في الحقيقة إنما يقع بين المصلحة الواقعية في اقتضائها الإلزام بالإحتياط وبين مصلحة التسهيل التي تقتضي إطلاق العنان للمكلف مع الإشتباه والتردد وحينئذٍ إذا فرضنا أنَّ مصلحة الواقع هي الأهم فلابد من جعل الإحتياط وإذا فرضنا أنَّ مصلحة التسهيل هي الأهم فلابد من جعل الأحكام الظاهرية النافية للتكليف ظاهراً كالبراءة وأمثالها ، فإذا جعل الشارع الأصل المؤمِّن إستكشفنا من ذلك أقوائية مصلحة التسهيل من المصلحة الواقعية ، ولا يلزم من ذلك محذور التضاد لأنَّ الحكم الظاهري الترخيصي لم ينشأ من ملاك في الفعل يقتضي الترخيص حتى يكون مضاداً للملاك الواقعي الذي يقتضي الإلزام وإنما نشأ من مصلحة عامة نوعية وهي مصلحة التسهيل.
وسيأتي في الوجه التالي أنَّ هذا الوجه مع شيء من التعديل يكون به رفع التنافي بين الأحكام الظاهرية والواقعية.
أما التعديل فلأنه يلاحظ عليه أولاً: إنه لا يخلو من نحو من أنحاء التصويب وذلك بإعتبار أن تسويغ الشارع العمل بالأمارة النافية للتكليف المفروض كونها مفوتة للواقع لأجل مصلحة التسهيل لا يخلو من تنازل منه عن الواقع وعن مبادئ الحكم الواقعي وحصول التفاوت بين العالم والجاهل فيريد الشارع الواقع من العالم ولا يريده من الجاهل فيكون الواقع تابعاً للمكلف ، ففي فرض الجهل يتبدل الواقع تبعاً لحال المكلف وهذا نحو من أنحاء التصويب ، وهذه ثغرة في هذا الوجه لابد من سَدها ولابد من الإلتزام بوجه لا يتبدل معه الواقع بحال.
وثانياً: إنَّ هذا الوجه يقتضي أن يكون الحكم الظاهري في موارد الأمارات يختلف بإختلاف مؤدى الأمارة فقد يكون مؤداها هو إثبات التكليف فيكون الحكم الظاهري في موردها طريقياً يُراد به الإيصال الى الواقع ولا مبادئ له وراء مبادئ الأحكام الواقعية.
وقد تكون الأمارة نافية للتكليف فلا تكون حينئذٍ طريقية وإنما يكون لها مبادئ حقيقية وهي مصلحة التسهيل النوعية، وهذان نوعان من الحكم الظاهري ولا يمكن الجمع بينهما في دليل ولسان واحد وهو دليل حجية الأمارة ، فهل المجعول فيه هو الحكم الظاهري الطريقي الموصل الى الواقع ليس إلا ولا مصلحة فيه أصلاً أم المجعول فيه هو الحكم الظاهري الناشئ من مصلحة أخرى غير مصلحة الواقع وغير مبادئ الأحكام الواقعية وهي مصلحة التسهيل النوعية ؟
وهذا الإختلاف وإن أمكن تصوره ولكن الكلام في كيفية الجمع بينهما في دليل واحد وهو دليل الحجية وبلسان واحد وهو لسان (صدِّق العادل) ولا يمكن حمله تارة على جعل الحكم الظاهري الطريقي وأخرى على جعل الحكم الظاهري الناشئ من مصلحة نوعية في قبال مصلحة الحكم الواقعي ، فلابد لتتميم هذا الوجه من ذكر ما يكون شاملاً للأمارة سواءً كانت مثبتة للتكليف أو نافية له.
الوجه التاسع: وهو ما ذكره السيد الشهيد قده ، ولا يُنكر وجود مبادئ هذا الوجه في كلمات آخرين إلا أنَّ تنقيحه بهذا الشكل هو من مختصاته قدس الله نفسه الزكية.
وتوضيحه يتوقف على ذكر مقدمات ثلاثة :
المقدمة الأولى: كلُ غرضٍ مهم بدرجة عالية - سواءً كان غرضاً تشريعياً للمولى أم تكوينياً لشخص ما - إذ فُرض وقوع الإشتباه والتردد فيه فإنه تتسع محركيته لتشمل جميع المحتملات لضمان عدم تفويته من دون فرض إتساع دائرة الغرض الواقعي نفسه ، فلو فرضنا أنَّ غرض شخصٍ تعلَّق بإكرام زيد وأنه بدرجة عالية من الأهمية بحيث لا يرضى بفواته فإن عَلِمَ بزيد فيكرمه ويستوفي غرضه ، وأما إذا إشتبه وتردد بين ثلاثة أشخاص فعليه أن يكرم الثلاثة لضمان تحصيل غرضه الواقعي المهم ، وهذا الإتساع ليس بإعتبار إتساع دائرة الغرض بل هو موجود في زيد الواقعي لكن محركية هذا الغرض إتسعت لتشمل المحتملات الأخرى لضمان تحصيل الغرض الواقعي ، وعليه فالغرض الواقعي واحد كما هو ومبادئه واحدة لا تتغير.
ونفس الكلام يُقال في الغرض التشريعي فالتوسعة فيه تعني جعل خطابات في مورد التردد والإشتباه يُحفظ بها الغرض الواقعي المهم الذي لا يرضى الشارع بفواته ، وهذا الخطاب الذي يُحفظ به الغرض الواقعي المهم هو الخطاب الظاهري ، وهو لا يعني التوسعة في الغرض الواقعي وإنما يأمر الشارع بغيره ظاهراً لضمان الوصول الى ذلك الغرض ، وهذا يعني أنَّ الخطابات الظاهرية الموسِّعة ليس على طبقها غرضٌ في متعلقها ، والتوسعة تكون بأن يُصدر الشارع خطابات تحفظية مثل وجوب الإحتياط يُبرز من خلالها شدة إهتمامه بالتكليف الواقعي المحتمل على تقدير ثبوته ويبرز اهتمامه بمبادئه ، وهذا معناه أنَّ هذا الخطاب الذي وسِّعت به دائرة محركية الغرض الواقعي لم يكن على طبقه غرض أصلاً ولا ملاك في متعلقه ، ففي مورد إحتمال الحرمة الواقعية على تقدير ثبوتها يأمر الشارع بترك المشتبه ظاهراً لكي يضمن تجنب المكلف المفسدة الواقعية ، وفي مورد إحتمال الوجوب الواقعي على تقدير ثبوته فالمصلحة إذا كانت مهمة بنظر الشارع ويريد من المكلف تحقيقها في الخارج فيجعل الإحتياط الظاهري ليضمن حصول الغرض الواقعي وتحقق المصلحة الواقعية الملزمة ، وهذا لا يعني أنَّ الحكم الواقعي تغيَّر ولا أنَّ مبادئه تتسع فتشمل غير متعلقها الواقعي بل تبقى على حالها وإنما يُجعل الحكم الواقعي للتحفظ على المبادئ الأهم فإذا كانت مبادئ الأحكام الإلزامية هي الأهم بنظر الشارع فيجعل الإحتياط والأحكام الظاهرية المثبتة للتكليف ، وإذا كانت مبادئ الإباحة الواقعية هي الأهم بنظره فيجعل الترخيص والأحكام الظاهرية النافية للتكليف.
ففي موارد الشبهات والتردد إذا شك المكلف في أنَّ هذا واجب أو مباح فهناك تزاحم في الواقع بين مبادئ الأحكام الإلزامية الواقعية ومبادئ الترخيص الواقعي وكلٌ منهما يقتضي أن يُحافظ عليه بنحو يختلف عن الآخر ، فمبادئ الأحكام الإلزامية يُحافظ عليها ويُضمن حصولها بجعل الإحتياط ومبادئ الأحكام الترخيصية يُحافظ عليها بجعل الأحكام الظاهرية النافية للتكليف.
المقدمة الثانية: التزاحم بين الأحكام له ثلاثة أقسام:
التزاحم الملاكي والتزاحم الإمتثالي والتزاحم الحفظي الذي أطلقه السيد الشهيد قده.
أما التزاحم الملاكي - الذي يقول به المحقق الخراساني قده - فهو يتحقق فيما إذا إفترضنا وجود ملاكين - كالمصلحة والمفسدة - في موضوع واحد ، و أحد الملاكين يقتضي محبوبية الفعل والآخر يقتضي المبغوضية وهما ضدان لا يجتمعان فيقع التزاحم بين هذين الملاكين بنحو يستحيل أن يؤثرا معاً في المقتضى فتُراعى الأهمية في تقديم أحدهما على الآخر.