الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/05/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ المقدمة/إمكان التعبد بالظن/الوجه الخامس والسادس والسابع

الوجه الخامس لدفع شبهة التضاد هو دعوى أنَّ الحكم الواقعي في مورد الأحكام الظاهرية حكم إنشائي وأنَّ الحكم الظاهري حكم فعلي فلا تضاد بينهما وإنما يكون التضاد بين الحكمين الفعليين ، وهذا الوجه نظير ما تقدم عن المحقق الخراساني من أنَّ الحكم الواقعي حكم تكليفي والحكم الظاهري حكم وضعي ولا تضاد بين حكمين من هذا القبيل وإنما يكون التضاد بين حكمين تكليفيين.

وهذا الوجه غير الوجه المتقدم عن صاحب الكفاية فإنه ذكر أنَّ الحكم الواقعي في موارد الحكم الظاهري حكم فعلي لكن لا من جميع الجهات بل هو فعلي من سائر الجهات ما عدا جهة العلم والوصول.

وأجاب المحقق الخراساني عن هذ الوجه بجوابين:

الأول: أنَّ لازمه هو عدم لزوم إمتثال ما قامت عليه الأمارة من الأحكام لأنها تُخبر عن الحكم الواقعي وهو حكم إنشائي بحسب الفرض ولا يجب إمتثال الحكم الإنشائي عند العلم به فضلاً عن قيام الأمارة عليه ، وإنما الذي يتنجَّز بالعلم أو بالأمارة هو الحكم الفعلي التام الفعلية ، وهذا اللازم باطل بالضرورة إذ لا إشكال في أنَّ الأمارة المعتبرة تُنجِّز الأحكام الواقعية عندما تُخبر عنها.

الثاني: لو إلتزمنا بأنَّ الأحكام الواقعية في موارد الأحكام الظاهرية هي إحكام إنشائية فلا يرتفع محذور التضاد لإحتمال أن يكون الحكم الواقعي فعلياً وهو إحتمال قائم ولا يمكن نفيه ، وفي هذا الإحتمال يأتي المحذور أيضاً لأنه يعني إحتمال لإجتماع الضدين وقد مرَّ أنَّ المحال لابد من القطع بعدمه ولا يصح إحتماله.

وإعتُرض على المحقق الخراساني بأنَّ ما ذكره كما يرد على هذا الوجه يرد على جوابه أيضاً فإنه ذكر أنَّ الحكم الواقعي في موارد الحكم الظاهري فعلي لكن لا من جميع الجهات ولذا يمكن أن يجتمع مع الحكم الظاهري ، فيمكن أن يقال في جوابه نحتمل أيضاً أن يكون هذا الحكم الواقعي فعلياً من جميع الجهات فنحتمل إجتماع الضدين وهو محال كالقطع بإجتماعهما.

ولكن الظاهر أنَّ هذا لا يرد عليه لأنه يدعى أنَّ الحكم الواقعي فعلي من جميع الجهات ما عدا جهة العلم والوصول ، ولابد من إضافة قيام الأمارة الى العلم لأنها تقوم مقام العلم في تنجيز الواقع بلا إشكال حتى بنظره ، ولا يمكن فرض فعلية الحكم الواقعي من جميع الجهات لأنَّ المفروض عدم وصول الحكم الواقعي الى المكلف وقيام الأمارة يعتبر وصولاً له ، فلا يُحتمل أن يكون الحكم فعلياً من جميع الجهات وبالتالي يقال يُحتمل إجتماع الضدين وهو محال كالقطع بإجتماعهما.

الوجه السادس: وهو ما يظهر من الشيخ الأنصاري في أول بحث البراءة من الرسائل ، وحاصله:

أنه يعتبر في التضاد كل ما يُعتبر في التناقض من إتحاد الوحدات الثمان ومنها إتحاد الموضوع ومع عدمه لا مانع من إجتماع النقيضين فضلاً عن الضدين وذلك بأن يتحقق السواد في موضوع ويتحقق البياض في موضوع آخر ، ويدعى في هذا الوجه أنَّ الحكم الواقعي والحكم الظاهري لا يردان على موضوع واحد وإنما يردان على موضوعين مختلفين وذلك بأن يكون موضوع الحكم الواقعي هو الفعل بعنوانه الأولي وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بعنوانه الثانوي _ أي الفعل المشكوك حكمه الواقعي - فالحرمة تَثبتُ لشرب الخمر بما هو شرب خمر والوجوب يثبت للصلاة بما هي صلاة وهذا هو العنوان الأولي للفعل ، لكن إذا شكَ المكلف في الحرمة أو الوجوب فيُجعل له الحكم الظاهري فهو يثبت للفعل بعنوان أنه مشكوك حكمه الواقعي وهذا عنوان ثانوي للفعل ، وهذا يعني تعدد موضوع الحكمين ومعه لا إستحالة في إجتماعهما.

وإعترض عليه:

أولاً بأنَّ هذا الوجه قد يُقبل في الأحكام الظاهرية في موارد الأصول العملية بإعتبار أخذ الشك في موضوعها فيمكن أن يُدعى ثبوت الحكم الظاهري للفعل بعنوانه الثانوي ، لكن الشك لم يؤخذ في موضوع الأمارات والطرق بل لسانها هو لسان إحراز الواقع فكيف يُدعى بأنَّ موضوع الأحكام الظاهرية في هذه الموارد هو الفعل بعنوانه الثانوي، بل الظاهر أنَّ موضوع الحكم الظاهري فيها هو الفعل بعنوانه الأولي ، فالأمارة التي تُخبر عن الحكم ويجعل الشارع لها الحجية تُثبت مؤداها للفعل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ، فإذا صح القول بأنَّ الأحكام الظاهرية في موارد الأصول العملية موضوعها الفعل بعنوانه الثانوي لأنَّ الشك أُخِذ في موضوعها فلا يصح ذلك بالنسبة الى الأحكام الظاهرية في موارد الطرق والأمارات ، فهذا الوجه قد يصح في بعض الأحكام الظاهرية لا في جميعها.

وثانياً أنَّ موضوع الحكم في نفس الأمر والواقع لابد أن يكون محدداً وواضحاً وأنَّ الإهمال فيه غير معقول - وهذه قضية مسلًّمة - فلا يخلو موضوع الحكم الواقعي من أحد فرضين إما أن يكون مطلقاً من ناحية الشك وإما أن يكون مقيداً بعدمه ، ولا نتصور أن يكون مقيداً بالشك لأنه يعني ثبوته لخصوص الجاهل وهو غير معقول لأنه ثابت قطعاً للعالم ، فيدور أمر الموضوع في نفس الأمر والواقع بين أن يكون مطلقاً من ناحية الشك ولازمه أن يشمل العالم والجاهل وبين أن يكون مقيداً بعدم الشك ، وعلى الأول يثبت في حال الشك ويلزم إجتماع الضدين ، فالجاهل يثبت في حقه الحكم الواقعي لأنَّ موضوعه مطلق من ناحية الشك ويثبت في حقه أيضاً الحكم الظاهري فيجتمع الحكمان فيعود المحذور.

وعلى الثاني - أي الموضوع المقيد بعدم الشك - فيلزم منه التصويب الباطل لأنه معناه إختصاص الحكم بالعالم وهو خلاف أدلة إشتراك الأحكام بين العالم والجاهل.

الوجه السابع: وهو ما ذكره المحقق العراقي في تقريرات بحثه وهو يتوقف على مقدمة وحاصلها:

أنَّ الوجود الواحد قد يكون له حيثيات متعددة ويكون مطلوباً ببعض هذه الحيثيات ولا يكون مطلوباً بالبعض الآخر، ومراده أنَّ الفعل الواحد عندما تكون له مقدمات متعددة فقد يكون وجوده راجحاً من حيث هذه المقدمة ولا يكون راجحاً من حيث تلك المقدمة ، فيكون مطلوباً بلحاظ مقدمةٍ ولا يكون مطلوباً بلحاظ مقدمة أخرى كما لو كانت المقدمة الثانية مرجوحة فلا يريد المولى الفعل لذلك.

ثم يقول والمطلوب الواقعي للمولى حتى يتحقق في الخارج له مقدمات راجعة الى المولى ويتوقف عليها الوجود الخارجي للمطلوب فمنها جعل الخطاب الواقعي ليضمن به تحقق الفعل في الخارج ، ومنها جعل الخطاب الظاهري بالإحتياط في حال الجهل وبه يضمن تحقق المطلوب في الخارج أيضاً ، فكل منهما طريق لضمان تحقق الفعل في الخارج بالنسبة الى المولى وبالتالي تحقق أغراضه ، وبتطبيق المقدمة المتقدمة نقول من الممكن أن نفترض أنَّ المطلوب للمولى هو وجود الفعل لكن من جهة الخطاب الواقعي وأما وجوده من جهة المقدمة الثانية - أي إيجاب الإحتياط - فليس مطلوباً للمولى فلا يجعل له وجوب الإحتياط ويقتصر على جعل الخطاب الواقعي ، بل قد يجعل البراءة ويطلق العنان للمكلف في حال الجهل ، فلا مشكلة في كون الفعل مطلوباً من ناحية مقدمته الأولى ولا يكون مطلوباً من ناحية مقدمته الثانية ، ولا تضاد بين أن يكون الفعل مطلوباً من جهة ولا يكون مطلوباً من جهة أخرى ، فلا تضاد بين إطلاق العنان للمكلف بإعتباره جاهلاً وبين إرادة الإتيان بالفعل انطلاقاً من الخطاب الواقعي فإذا لم يصل إليه فلا يريده منه ولذا لم يجعل له الإحتياط بل يطلق له العنان ويسمح له بترك ذلك الفعل ، وهذا وجه للجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية من دون أن يلزم من ذلك التضاد.