الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/05/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ المقدمة/إمكان التعبد بالظن/الوجه الرابع

كان الكلام في الوجه الثالث لدفع محذور التضاد وكان حاصله هو رفع التنافي بين الحكمين الواقعي والظاهري على أساس أنَّ الحكم الواقعي وإن كان فعلياً بإعتبار تحقق شروط فعليته إلا أنّ فعليته ليست من جميع الجهات بل معلّقة على الوصول والعلم ، فالتكليف فعليٌ لكنه ليس واصلاً الى مرحلة التنجيز ، ويدعى أنَّ مثل هذا الحكم الواقعي لا ينافي الحكم الظاهري الواصل والمنجَّ

وتقدم أنَّ هذا الوجه يختص بالأحكام الظاهرية التي لسانها ليس لسان إحراز الواقع كأصالة الإباحة الشرعية ففي موردها لا يكون الحكم الواقعي واصلاً لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبدي ، والحكم غير الواصل الى مرحلة التنجيز لا ينافي الإباحة الظاهرية المنجَّزة ، فُيدفع محذور التضاد بهذا الوجه الثالث في هذه الموارد.

وأما الأحكام الظاهرية في موارد الطرق والأمارات فلا يجري هذا الوجه فيها والسر فيه هو أنَّ الحكم الواقعي يكون واصلاً الى المكلف ومنجزاً للتكليف بمجرد قيام الأمارة المعتبرة عليه.

ولذا ذُ كر تفسير آخر لكلامه حتى يجري في هذه الموارد وهو التفسير الثاني ، وحاصله:

إنَّ التعليق في الحكم الواقعي ليس على العلم والوصول وإنما على عدم الإذن في المخالفة ، فالحكم الواقعي مشروط بعدم الإذن والترخيص في المخالفة وهذا من شرائط فعلية التكليف ، وإذا فرضنا أنّ الحكم الواقعي هو التحريم وتمثل الإذن في الخلاف بأصالة الإباحة أو بالأمارة الدالة على الإباحة فلا يكون الحكم الوقعي تام الفعلية لإنتفاء أحد شرائط فعليته وهو عدم الإذن في الخلاف ، ومثل هذا الحكم الواقعي المعلق لا ينافي الحكم الظاهري التنجيزي وهو الإذن في الخلاف.

وهذا التفسير يجري حتى في الأحكام الظاهرية في موارد الطرق والأمارات ، لأنَّ الحكم الواقعي الواصل الى المكلف لا يكون منجَّزًا لأنه ليس تام الفعلية وقد تقدم أنَّ العلم إنما يُنجِّز التكليف إذا كان فعلياً من جميع الجهات وأما إذا لم يكن كذلك فلا يكون العلم به منجزاً له ويكون العلم به كالعلم بالحكم الإنشائي.

وفي مقام تقييم الوجه الثالث بكلا تفسيريه نقول:

أما الأول فالظاهر أنه تام وبه تدفع شبهة التضاد ، مع التنبيه على أنَّ الشبهة تُدفع في جميع العوالم من المصالح والمفاسد والإرادة والكراهة والإمتثال الخارجي ، ولكنَّ التفسير الأول يختص بالأحكام الظاهرية التي لسانها ليس لسان إحراز الواقع كأصالة الإباحة وأمثالها لأنَّ الحكم الواقعي معلَّق على الوصول والعلم والمفروض عدم وصوله فلا يكون منجَّزاً على المكلف فلا ينافي الحكم الظاهري الواصل والمنجَّ

والحاصل: أنّ مثل هذا الحكم لا ينافي الحكم الظاهري لا في عالم التأثير والإمتثال لعدم وصوله فلا يقتضي من المكلف إمتثالاً منافياً لما يقتضيه الحكم الآخر ، ولا في عالم المصالح والمفاسد لأنَّ مصلحة الحكم الظاهري قائمة في نفس جعله ومبادئ الحكم الواقعي في قائمة المتعلق ، ولا في عالم الإرادة والكراهة لأنَّ المبادئ في هذا العالم على طبق الحكم الواصل وهو في محل الكلام الحكم الظاهري ، فلا إرادة مولولية للترك في الحكم الواقعي عندما لا يكون التكليف واصلاً لأنَّ الإرادة هي عبارة عن الشوق المولوي المتعلق بالفعل الناشئ من تحريك التكليف الواصل الى المكلف ، فلا يكون التكليف محركاً إلا إذا كان واصلاً ومع عدم الوصول لا يتعلق الشوق بترك الفعل لعدم المحرك لتركه ، فلا توجد مبادئ في جميع العوالم إلا مبادئ الحكم الظاهري الواصل الى المكلف فلا تنافي ، فهذا الوجه - بحسب هذه المباني - يوجب رفع التضاد بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري الوارد بلسان غير لسان إحراز الواقع.

أما التفسير الثاني فإنه وإن كان يشمل جميع الأحكام الظاهرية ولكن يلاحظ عليه أننا نحرز تحقق الشرط الذي عُلِّق عليه الحكم فإنه معلق على عدم الإذن في الخلاف ونحن نحرزه ، لأنه في مورد قيام الأمارة يكون التكليف الواقعي واصلاً ومنجزاً ومع وصوله لا مجال لجعل الحكم الظاهري والإذن في الخلاف ومع إحراز هذا الشرط يكون التكليف الواقعي فعلياً ، فإن تم هذا التفسير إرتفع موضوع الحكم الظاهري لأنَّ موضوعه هو الشك في التكليف الواقعي والمفروض وصوله والعلم به ولو تعبداً.

الى هنا يتم الكلام عن الوجه الثالث لرفع التضاد وتبين أنه بتفسيره الأول لا بأس به.

الوجه الرابع لدفع شبهة التضاد:

وهو يعتمد على أنَّ هناك طولية بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فالحكم الواقعي متقدم بمرتبتين على الحكم الظاهري وذلك لأنَّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي فهو متأخر عن موضوعه وهو الشك ، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي بطبيعة الحال تأخر كل شك عن متعلقه - كما هو الحال في العلم والظن ونحوهما - فيكون الحكم الظاهري متأخراً عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، وهذا الإختلاف يدفع المحذور لأنه يشترط في التضاد إتحاد الرتبة.

ولهذا الوجه تفسيران:

الأول ما تقدم من إختلاف الرتبة بين الحكمين فلا إجتماع لهما حتى يقال بالتضاد بينهما.

وأجاب عنه المحقق الخراساني بما حاصله: أنَّ الحكم الظاهري وإن لم يجتمع مع الحكم الواقعي المتقدم عليه رتبة لأنَّ الحكم الواقعي في رتبة علل الحكم الظاهري فلو إجتمع الحكم الظاهري معه لكان في رتبة علته وهو محال لأنَّ معناه فرض وجود الحكم الظاهري قبل وجوده أي قبل أن تتحقق شرائط علل وجوده ، ولكن إجتماع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري لا مشكلة فيه لأنَّ العلة تجتمع مع معلولها في مرتبته.

أو قل: الحكم الواقعي بإعتباره مطلقاً وشاملاً للعالم والجاهل فهو يجتمع مع الحكم الظاهري في مرتبته فإنَّ العلة تجتمع مع المعلول في مرتبته دون العكس وإذا إجتمع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري لزم التضاد.

وأجابوا عنه : إذا لاحظنا في الإجتماع وعدمه عالم الرُتب فلا فرق بين العلة المعلول فكما أنَّ الحكم الظاهري لا يمكن أن يجتمع مع الحكم الواقعي في مرتبته فكذلك لا يمكن أن يجتمع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري في مرتبته للنكتة المتقدمة وهي التقدم والتأخر فكيف نفترض تأخر الحكم الواقعي في رتبة متأخرة عنه ! ويلزم أن يكون الحكم الواقعي موجوداً في مرتبة معلوله ، هذا بلحاظ عالم الرتب.

فالصحيح أنه كما لا يجتمع المعلول مع العلة في رتبتها كذلك لا تجتمع العلة مع المعلول في رتبته فالقول بأنَّ المعلول غير موجود في مرتبة العلة لكن العلة موجودة في مرتبة المعلول غير صحيح ، بل الصحيح أنَّ كلاً منهما غير معقول بمعنى أنَّ كلاً من العلة والمعلول معدوم في مرتبة الآخر.