43/05/02
الموضوع:الظن/ المقدمة/إمكان التعبد بالظن/الإعتراضات على الوجه الثالث لدفع المحذور الثاني
تقدم الحديث عن الوجه الثاني لدفع محذور التضاد ومرجعه الى دعوى أنَّ الحكم الظاهري حتى لو كان حكماً تكليفياً فلا ينافي الحكم الواقعي بإعتباره حكماً طريقياً لم ينشأ من مصلحة في متعلقه وإنما نشأ من مصلحة في نفسه فلا يلزم إجتماع الضدين ويندفع بذلك المحذور.
وتقدم أيضاً أنَّ صاحب الكفاية إستشكل في جريان هذا الوجه لدفع المحذور في أصالة الإباحة الشرعية - وما كان من قبيلها - لأنها بحسب نظره ليست حكماً طريقياً بل حكماً نفسياً فالمضادة وإن إرتفعت بلحاظ المصلحة والمفسدة بإعتبار أنَّ الإباحة تنشأ من مصلحة في نفس جعلها والحكم الواقعي ينشأ من مصلحة في المتعلق فلم تجتمع الملاكات المتخالفة في شيء واحد ولكن التضاد في عالم الكراهة والإرادة متحقق بالتقريب المتقدم.
وهذا التضاد بين الملاكات المتخالفة لابد من حَلّه فاقترح صاحب الكفاية الوجه الثالث لرفعه في خصوص الإباحة الظاهرية الشرعية وما يشابهها ، وذكرنا لهذا الوجه تفسيران:
التفسير الأول: أنّ الحكم الواقعي في مورد الإباحة الظاهرية فعليته معلقة على الوصول ، لكنه في موارد الإباحة غير واصل لا بالعلم الوجداني ولا بالعلم التعبدي ، ومع عدم إحرازه لا يكون فعلياً ولا منجّزاً على المكلف فلا ينافي الإباحة الظاهرية المنجزَّة والواصلة الى المكلف.
وهذا الوجه بهذا التفسير يجري في أصالة الإباحة الشرعية وما شاكلها ولكنه لا يجري في الإباحة الظاهرية الثابتة في موارد الطرق والأمارات لوصول الحكم الواقعي بها ، وأما جريانه في الإستصحاب فعلى الخلاف تصنيفه.
وأما بناءً على مبنى جعل الحكم المماثل فكأنّ الأمارة تكون بحكم أصالة الإباحة الشرعية لأنَّ الحكم الظاهري في باب الأمارات لم يجعل بإعتبارها محرزة للواقع وإنما يجعل حكماً مماثلاً لما تُخبر به الأمارة.
ومن هنا قال: (فلا محيص في مثله - أي الإباحة وأمثالها - إلا عن الإلتزام بعدم إنقداح الإرادة والكراهة في بعض المبادئ العالية.. الخ)[1]
التفسير الثاني: وهو ما أشار إليه بقوله: (وكونه فعليّا إنّما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبويّة أو الولويّة فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.)
وقلنا أنَّ معناه هو أنَّ التعليقية ليست بلحاظ الوصول وإنما بلحاظ عدم الإذن في المخالفة ، ومثل هذا الحكم المعلَّق لا يكون فعلياً ولا ينافي الإذن في المخالفة أي لا ينافي الإباحة الظاهرية لأنها تعني الإذن في الاقتحام وجواز الفعل وهو إذن في المخالفة ، وهذا الوجه يجري في جميع الأحكام الظاهرية حتى الوارد منها بلسان إحراز الواقع.
والحاصل: أنَّ التنافي بين الأحكام إنما هو بلحاظ مرتبة الفعلية لا في مرتبة الإنشاء ولا في مرتبة الإقتضاء وحينئذٍ في موارد الحكم الظاهري إذا فُرض إنحفاظ الحكم الواقعي بتمام مراتبه الثلاثة المتقدمة لزم محذور التضاد وأما إذا فُرض عدم إنحفاظها كذلك فلا يلزم محذور التضاد كما إذا كان إنشائياً.
وصاحب الكفاية لا يقول في هذا الوجه إنّ الأحكام الواقعية إنشائية في موارد الحكم الظاهري لوضوح الإشكال فيه فإنه لا يكون الحكم الإنشائي منجزاً عند العلم به ، وإنما مرتبه هي الفعلية من سائر الجهات ولكنها متوقفة إما على الوصول أو على عدم الإذن في المخالفة.
الإعتراضات على الوجه الثالث لدفع محذور التضاد
الإعتراض الأول: إنَّ الحكم الواقعي كان فاقداً لبعض شرائط الفعلية فيكون حكماً إنشائياً ، ولا فرق بين أن يكون الحكم فاقداً لجميع شرائط الفعلية أو فاقداً لبعضها فعلى كلا التقديرين يكون حكماً إنشائياً والأحكام الإنشائية لا تتنجز بالعلم بها فلا يتنجَّز الحكم الواقعي بالعلم به والحال إنَّ صاحب الكفاية يؤمن بأنَّ الحكم الواقعي في موارد الأحكام الظاهرية يتنجَّز بمجرد العلم به وهذا يتنافى مع كون الحكم الإنشائي لا يتنجَّز بمجرد العلم به.
وأجابوا عنه: بأنَّ المهم عند المحقق الخراساني هو رفع إشكال التضاد وذلك بأن يكون الحكم الواقعي في موارد الأحكام الظاهرية واصلاً الى مرحلة بحيث يكون العلم به أو قيام الأمارة عليه مُنجِّزاً له ، ولا ضير في تسميته بالحكم الإنشائي ، وذلك في مقابل أن يُلتزم بأنه حكم إنشائي لاحَظَّ له من الفعلية بل هو فعلي من سائر الجهات ما عدا جهة واحدة.
وبعبارة أخرى: أنَّ الحكم الواقعي إذا كان قيام الحكم الظاهري - كالإباحة - على خلافه مانعاً من فعليته وإن كان تام الفعلية من الجهات الأخرى كان ذلك كافياً في دفع محذور صيرورة الحكم الواقعي في مورد الأحكام الظاهرية حكماً إنشائياً صرفاً.
الإعتراض الثاني: هو ما ذكره المحقق النائيني في فوائد الأصول[2] ومفاده : أنَّ هذا الحكم الواقعي في نفس الأمر لا يخلو من إحدى حالتين إما أن يكون مقيداً بعدم قيام الأمارة على خلافه وإما أن لا يكون كذلك ، أما على الأول فيلزم منه التصويب الباطل لأنَّ الأمارة إذا قامت على خلافه إرتفع الحكم الواقعي ، فلا توجد أحكام يشترك فيها العالم والجاهل وهو خلاف ما دلت عليه الأدلة من إشتراك الأحكام بينهما.
وأما على الثاني فيلزم التضاد بين الحكم الواقعي وبين الحكم الظاهري ، لأنَّ الحكم الواقعي يكون فعلياً حينئذٍ فيكون منافياً للحكم الظاهري.
وتقرير إعتراضه باصطلاحاته قده : أنَّ الموجود عندنا هو إنشاء الحكم على موضوعه المقدّر الوجود على نهج القضية الحقيقية وهو المسمى بالجعل ، فإذا تحقق ذلك الموضوع بجميع قيوده فيكون الحكم فعلياً لا محالة وهو المجعول ، ومع عدم تحقق الموضوع لا وجود للحكم كما هو واضح ، فمثلاً إذا أمرَ الشارع المستطيع بالحج ففعلية الأمر تكون بتحقق الإستطاعة ومع تحققها يستحيل عدم فعلية الحكم لأنَّ ذلك بمنزلة التفكيك بين العلة ومعلولها وحينئذٍ إذا فرضنا أنَّ وجوب الحج قُيِّدَ في الواقع بمن لم تقم عنده الأمارة على الخلاف فالذي قامت عنده الأمارة على الخلاف لم يُكلّف بالحج لإنتفاء الموضوع بإنتفاء قيده وبالتالي إنتفاء الحكم بإنتفاء موضوعه.