43/04/28
الموضوع:الظن/ المقدمة / الأمر الثاني / إمكان التعبد بالظن
كان الكلام في المحذور الثاني وحاصله أنَّ التعبد بالظن يلزم منه إما التصويب الباطل وإما إجتماع المثلين أو الضدين ، أما لزوم التصويب فإذا قلنا بإرتفاع الحكم الواقعي في مورد جعل الحكم الظاهري ، وإما إجتماع المثلين أو الضدين فإذا قلنا بعدم إرتفاعه.
وأجيب عنه بوجوه:
الأول ما في الكفاية بأنَّ إجتماع الضدين أو المثلين إنما يلزم عندما يكون كِلا الحكمين حكماً تكليفياً ولكنه غير متحقق في المقام لأنَّ الحكم المجعول في مورد الأمارات هو الحجيَّة ولا تستبع حكماً تكليفياً وإنما تعني أنَّ الأمارة التي جُعلت لها الحجية تكون منجزة أو معذرة ، فلا يجتمع حكمان حتى يقال بإجتماع الضدين أو المثلين وإنما هناك حكم واحد وهو الحكم الواقعي.
وهذا الوجه لو تم أمكن تعميمه لمسلك جعل الطريقية في باب الأمارات إذ لا فرق بين جعل الحجية وجعل الطريقية فكلاهما حكم وضعي ولا يستتبع حكماً تكليفياً فيرتفع المحذور.
والجواب عنه هل المحذور المذكور ناظر الى كيفية الجعل والإعتبار فقط أم هو ناظر الى ما يُعبر عنه الإعتبار من مبادئ كالمصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة ، فإذا قلنا أنّ المحذور ناظر الى كيفية الإعتبار فالجواب صحيح ولا يجتمع حكمان متضادان أو متماثلان ، لأنَّ الحكم الواقعي هو حكم تكليفي وهو إعتبار الفعل في عهدة المكلف بينما المجعول في باب الأمارت هو الحجية وهو لسان آخر غير لسان إعتبار الحكم فهما كيفيتان مختلفتان للحكم فلا يلزم إجتماع المثلين أو الضدين.
وأما إذا قلنا أن المحذور ينشأ عن ما تعبر عنه هذه الإعتبارات من المبادئ كالمصالح والمفاسد والحب والبغض فلا يكون هذا الوجه تاماً فإنّ المجعول في باب الأمارات وإن كان هو الحجية وهي لا تستبع حكماً تكليفياً لكنها نشأت من مبادئ وتستبع من المكلف موقفاً عملياً.
وبعبارة أخرى أنَّ الشارع عندما يجعل الحجية للأمارة هل يريد من المكلف أن يتحرك على طبق الأمارة أو لا يريد ذلك ؟ فإذا قامت الأمارة على إباحة شيء هو حرام واقعاً فهنا يتحقق إجتماع الضدين بلحاظ عالم المبادئ فإنَّ الحكم الواقعي إن كان هو الحرمة فيعني أنَّ هناك مفسدة وكراهة في هذا الفعل ، بينما جعل الحجية للأمارة المؤدية لإباحة هذا الحرام الواقعي يعني وجود مصلحة في إطلاق العنان للمكلف وعدم إلزامه بشيء من الفعل أو الترك وهذان أمران متضادان ، وهذا هو الذي يوجب توهم إجتماع الضدين أو المثلين ولكن بلحاظ المبادئ لا بلحاظ الجعل والإعتبار.
هذا كله مع التنزل عن ما ذكرناه من وجود إتجاه آخر في الإحكام الوضعية وأنها تستبع أحكاماً تكليفية ، فجعل الحجية للأمارة يستتبع حكماً تكليفياً وهو (صَدِّق العادل) ،كما أنَّ جعل الزوجية بين الرجل والمرأة بالعقد يستتبع أحكاماً تكليفية معلومة فيكون كلاً منهما حكم تكليفي وهما متضادان فيلزم إجتماع الضدين.
ويتضح ذلك بشكل أكبر على مسلك الشيخ الأنصاري قده الذي يقول إنَّ الأحكام الوضعية ليست مجعولة أولاً وبالذات وإنما المجعول كذلك هو الأحكام التكليفية وينُتزع منها الأحكام الوضعية فهي أحكام إنتزاعية غير مجعولة من قِبل الشارع ، وهذا يعني أنَّ ما يجعله الشارع هو (صَدِّق العادل) وهو أمرٌ للمكلف بالعمل على طبق الأمارة وينتزع منه أنها حجة فيقال مجازاً أنَّ الشارع جعل الحجيّة للأمارة وليس كذلك والمجعول هو الأحكام التكليفية التي قد تكون مضادة أو مماثلة للحكم الواقعي.
الوجه الثاني ما أشار إليه في الكفاية أيضاً ، فبعد التنزل عن الوجه السابق قال:
(نعم ، لو قيل باستتباع جعل الحجّيّة للأحكام التكليفيّة أو بأنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الأحكام ، فاجتماع حكمين - أي تكليفيين - وإن كان يلزم إلّا أنّهما ليسا بمثلين أو ضدّين ، لأنّ أحدهما طريقيّ [ناشئ] عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه الموجب - أي إنشاء الحكم الطريقي - للتنجّز - على تقدير الإصابة - أو لصحّة الاعتذار - على تقدير الخطأ - بمجرّده من دون إرادة نفسانيّة أو كراهة كذلك متعلّقة بمتعلّقه - أي متعلقة بالفعل -)[1] .
ومراده هو حتى لو سلَّمنا بوجود حكم تكليفي ظاهري في مورد الأمارة فلا يلزم محذور إجتماع الضدين أو المثلين وذلك بإعتبار أنَّ الحكم الظاهري التكليفي حكم طريقي لا ينشأ من مصلحة في المتعلق حتى يلزم من اجتماعه مع الحكم الواقعي إجتماع الضدين ، فالحرمة الناشئة من مفسدة في الفعل حرمة واقعية ، وإذا كان الحكم الظاهري هو جعل الحجية للأمارة الدالة على الوجوب فهو وإن كان حكماً تكليفياً لكنه لا ينشأ من مصلحة في الفعل حتى تُضاد المفسدة الواقعية وإنما ينشأ من مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه لغرض تنجيز الواقع عند الإصابة والتعذير من ناحيته عند الخطأ ، ومثل هذا الحكم الطريقي لا يوجب إجتماع المثلين أو إجتماع الضدين ولا ينافي الحكم الواقعي بإعتبار إختلاف متعلق المفسدة عن متعلق المصلحة.
والحاصل: أنَّ الحكم التكليفي الطريقي لا يكون ناشئاً من مصلحة وملاك في متعلقه وإنما يُنشأ لغرض التنجيز والتعذير بلحاظ الواقع فلابد أن يكون الملاك في إنشائه قائماً في غير متعلقه ومع تعدد المتعلق لا يلزم إجتماع الضدين أو المثلين.
ولوحظ على هذا الوجه بأننا لا نتعقل نشوء الحكم الظاهري من مصلحة في نفس جعله ، بل لابد أن ينشأ الحكم من مصلحة في متعلقه ، ومثل هذا الحكم - وهو فعل المولى - لا يكون موضوعاً لوجوب الطاعة وإنما يُستوفى الغرض منه بمجرد جعله ، فلا مدخلية لعمل المكلف فسواءً إمتثل التكليف أم لم يمتثله فقد استوفى الحكم ملاكه بمجرد جعله ، وهذا غير متصور ، فلو فرضنا أنَّ الأمارة دلت على الوجوب والشارع جعل الحجية لها وقلنا أنها تستبع حكماً تكليفياً لكنه ينشأ من مصلحة في نفس جعله فقد تحققت بقطع النظر عن موقف المكلف!
والكلام هنا في تحديد مراد المحقق الخراساني قده من جوابه الثاني فهل مراده ما ذُكر أو يحتمل أنه يريد معنى آخر وهو أنَّ الأحكام الظاهرية ليس لها ملاكات خاصة بها وإنما ملاكاتها هي نفس ملاكات الأحكام الواقعية وإنما تُنشأ لغرض إدراك المصالح الواقعية الأهم عندما يقع التزاحم الحفظي فيما بينها فيُجعل الحكم الظاهري طبقاً للأهم منها ، فحفظ الواجبات الواقعية يكون بجعل حكم ظاهري مناسب لها وهو الإحتياط وحفظ مبادئ المباحات الواقعية يستدعي جعل حكم ظاهري مناسب لها وهو الإباحة الظاهرية ، فليس للأحكام الظاهرية ملاكات خاصة بها حتى يلزم إجتماع الضدين أو المثلين ، فإن أمكن تفسير كلامه بهذا المعنى فيكون جواباً عن المحذور الذي ذُكر ، لكن الكلام في إمكان تفسير عبارته بذلك ، وفي عبارته ما يُشير الى هذا المعنى لكن فيها أيضاً ما لا يقبل الحمل عليه.
فإن فُسِّرت عبارته بالتفسير الأول فالإيراد عليها هو ما تقدم وإن فُسِّرت بهذا التفسير المحتمل فتكون وجهاً صحيحاً لدفع المحذور الثاني.
ثم إستشكل قده في جريان الوجه الثاني الذي ذكره لدفع المحذور في بعض الأحكام الظاهرية كأصالة الإباحة الشرعية ، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.