الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/ المقدمة / الأمر الثاني / إمكان التعبد بالظن

كان الكلام في المحاذير التي إدُعي أنها تلزم من التعبد بالظن والتي قيل على أساسها أنّ التعبد بالظن محال وقوعاً ، والكلام فعلاً في المحذور الأول وهو أن التعبد بالظن على خلاف قاعدة قبح العقاب بلا بيان العقلية فيكون محالاً ، وقلنا قد يدفع هذا المحذور بوجوه:

الوجه الأول: هو الإلتزام بالتخصيص ، لكنه غير تام لأن التخصيص في الأحكام العقلية غير متصور أصلاً.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قده بناءً على ما إختاره من أن المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والعلمية - أي إعتبار الظن علماً وطريقاً تاماً - وهذا يدفع المحذور لأنه يرفع المنافاة بين جعل الحجية للظن وبين الحكم العقلي لأنَّ جعل الظن علماً يكون حاكماً على القاعدة العقلية لأنها تقول يقبح العقاب من دون بيان أي من دون علم فموضوع القاعدة عدم العلم وكما يرفع العلم الوجداني هذا الموضوع فكذلك العلم التعبدي يرفعه تعبداً وبالحكومة من دون أن يكون منافياً ولا مخصصاً للقاعدة إذ لا تنافي بين الدليل الحاكم والدليل المحكوم ، فلا منافاة بين جعل الحجية للظن وبين الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان.

وأضاف المحقق النائيني قده بأنَّ هذا الوجه لا يمكن إجراؤه فيما لو قلنا أنَّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية - كما هو المعروف عن صاحب الكفاية - ولا يرتفع المحذور لأنَّ مجرد جعل المنجزية للظن لا يجعله بياناً وعلماً فلا يرفع موضوع القاعدة بالحكومة.

الوجه الثالث: أن يُدعى أنَّ القاعدة العقلية التي تحكم بقبح العقاب بلا بيان لا يُدركها العقل على إطلاقها وإنما هي محددة بغير الظن المعتبر فلا تشمل موارد الظن المعتبر من البداية فتُفسَّر القاعدة بالحكم بقبح العقاب مع عدم العلم وعدم الظن المعتبر ، فالعقل كما يُدرك عدم قبح عقاب العالم بالتكليف عند المخالفة كذلك يُدرك عدم قبح عقاب من قام عنده الظن المعتبر على التكليف عند المخالفة ، فيصح العقاب بحكم العقل على كِلا التقديرين ولا تأمين فيهما.

بعبارة أوضح يدعى أنَّ البيان في القاعدة لا يختص بالعلم الوجداني بل يعمه والظن المعتبر شرعاً فمخالفة التكليف عند تمامية البيان بهذا المعنى يكون موجباً لإستحقاق العقاب وإنما ينتفي الإستحقاق ويثبت التأمين ويقبح العقاب إذا إنتفى البيان بهذا المعنى الواسع ، وبناءً على هذه الدعوى يرتفع المحذور من الأساس لأنه مبني على تفسير البيان بالعلم الوجداني وثبوت التأمين في موارد الظن ولو كان معتبراً يوقع التنافي بينهما لأنه ليس علماً وجدانياً.

وتوسعة البيان الى الأعم من العلم الوجداني والظن المعتبر الى هنا مجرد دعوى ولكن يمكن ذكر وجه صناعي له وهو ما أشرنا إليه سابقاً في مباحث القطع من أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تشمل التكليف المحتمل الذي أبرز الشارع إهتمامه به بنحو لا يرضى بتفويته كما يقال في بابي الفروج والدماء فيلزم الإحتياط في هذه الموارد حتى مع عدم العلم ، وحينئذٍ نقول لا يحكم العقل بقبح عقاب من خالف التكاليف التي أبرز الشارع إهتمامه بها بل يحكم بإستحقاق العقاب لأنه لا يرى فرقاً بينها وبين التكاليف المعلومة.

وأما معرفة التكاليف التي إهتم الشارع بها بنحو لا يرضى بتفويتها فبدلالة جعل الحجية للأمارة الدالة عليها وبذلك يكون قد أبرز إهتمامه بها وعدم رضاه بتفويتها حتى مع الجهل بها ، فما يثبت بالأمارة هو تكليف أبرز الشارع إهتمامه به والعقل لا يحكم بالتأمين تجاهه ، هذا يمكن أن يكون تخريجاً لهذه الدعوى وبه يندفع المحذور أيضاً لأنَّ القاعدة العقلية لا تشمل من الأساس التكاليف التي أبرز الشارع إهتمامه بها.

أو قل إنَّ التكاليف المحتملة على نوعين : تكاليف لم يُبرز الشارع إهتمامه بها وتكاليف أبرز إهتمامه بها ، ولا يرضى بتفويت الثانية حتى مع جهل المكلف بها ، والقاعدة العقلية تختص بالأولى كما في التكاليف المحتملة في الشبهات البدوية والتي لم يقم عليها دليل معتبر فتجري فيها القاعدة ، وأما النوع الثاني فلا تجري فيها القاعدة أساساً ، وجعل الحجية للأمارة هو نوع من أنواع إبراز الإهتمام بالتكليف الذي تؤدي إليه الأمارة ، وبهذا يرتفع المحذورالأول.

أما المحذور الثاني وهو أنَّ تعبد بالظن يستلزم إما التصويب على فرض إنتفاء الحكم الواقعي في مورده وإما إجتماع المثلين أو الضدين على فرض ثبوت الحكم الواقعي ، فأجيب عنه بعدة وجوه :

الوجه الأول ما في الكفاية وحاصله أنَّ التعبد بالظن إنما هو بجعل الحجية له وهي غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق بل إنما تكون موجبة لتنجُّز التكليف به إذا أصاب وصحة الاعتذار به إذا أخطأ فلا يلزم إجتماع حكمين متماثلين ، وتوضيح ذلك:

عند قيام الأمارة المخالفة للحكم الواقعي لا يرتفع الحكم الواقعي بذلك فلا يلزم التصويب ، وأما إجتماع المثلين أو الضدين فلا يلزم أيضاً لأن ذلك يكون بين الأحكام التكليفية المتماثلة أو المتضادة وليس كذلك في المقام لأنَّ الحكم الثابت بالأمارة ليس حكماً تكليفياً حتى يقابل الحكم الواقعي فيضاده أو يماثله وإنما جعل الحجية للأمارة بمعنى أنها مُنجِّزة للتكليف إذا أصابت ومُعذرِّة عنه إذا أخطأت لا غير ، فلا يصح القول بإنَّ الشارع حكم بالإباحة إذا قامت الأمارة عليها وكان التكليف في الواقع إلزامياً كما إذا قامت الأمارة على إباحة أكل لحم الأرنب وكان حكمه الواقعي هو الحرمة ، وعليه لا يلزم إجتماع حكمين متماثلين أو متضادين عند جعل الحجية للأمارة.

ويفهم من كلامه أنه يفترض أنَّ محذور إجتماع الضدين أو المثلين إنما يلزم بين الأحكام التكليفية وليس في المقام إلا الحكم الواقعي فهو حكم تكليفي واحد وجعل الحجية للأمارة لا يستتبع حكماً تكليفياً.

ويلاحظ عليه: إنَّ جعل الحجية للأمارة يستتبع موقفاً عملياً دائماً فكيف يقال لا حكم تكليفي فيه.

ويمكن تطبيق ما قاله على ما ذكره المحقق النائيني قده فإنه إختار أنَّ المجعول في الأمارات هو الطريقية وهو حكم وضعي أيضاً كالمنجزية ولا تستبع أحكاماً تكليفية فلا محذور أيضاً بحسب هذا الجواب ، فلا يلزم من جعل الحجية للظن سواء كانت بمعنى المنجزية أو الطريقية إجتماع حكمين تكليفيين متماثلين أو متضادين.

أما أن الأحكام الوضعية هل تستبع أحكاماً تكليفية أو لا ففيها كلام كثير ، ويظهر من الشيخ الأنصاري قده القول بأنَّ المجعول أولاً وبالذات هو الحكم التكليفي والأحكام الوضعية أمور إنتزاعية تنتزع منه ، فالحجية حكم وضعي ينتزع من (صَدِّق العادل) وهو حكم تكليفي بوجوب تصديق العادل وينتزع منه عنوان الحجية فالمجعول هو الحكم التكليفي في جميع الموارد ، فالزوجية مثلاً لا يجعلها الشارع وإنما يجعل وجوب التمكين على المرأة ووجوب الإنفاق على الرجل ونحو ذلك من الأحكام التكليفية ويُنتزع من مجموع هذه الأحكام عنوان الزوجية ، وهكذا سائر الأحكام الوضعية ، فإذا قلنا بهذا الرأي فلا يتم كلام صاحب الكفاية لأنَّ المجعول حينئذٍ حكم تكليفي فيجتمع مع الحكم الواقعي فإن ماثله لزم إجتماع المثلين وإن خالفه لزم إجتماع الضدين.

وأما على الرأي الآخر القائل بأنَّ المجعول أولاً وبالذات هو الحجية فيأتي فيه الكلام المتقدم وأنها هل تستبع أحكاماً تكليفية أو لا تستبع ذلك ، وفيه كلام طويل نكتفي بالإشارة إليه من دون الدخول في تفاصيله.