43/04/23
الموضوع : الظن/ المقدمة / الأمر الثاني / أجوبة الإعتراض الثالث
كان الكلام في الإعتراضات الثلاثة التي إعترض بها المحقق الخراساني قده على ما ذكره الشيخ الإنصاري قده في تأسيس الأصل عند الشك في الإمكان ، ولوحظ على الإعتراض الثاني منها بملاحظة أجبنا عنها بنكتتين في الدرس السابق ، وكانت النتيجة هي إمكان القول أننا لا نحرز حجية هذه السيرة - على تقدير ثبوتها - بدليل قطعي وغاية ما يمكن هو دعوى الظن بالحجية ، لكنه أول الكلام فلا معنى للإستدلال على إمكان التعبد بالظن بالظن نفسه ، وبيّنا ما هو الوجه في عدم إحراز حجية هذه السيرة وإمضاء الشارع لها على سبيل القطع واليقين.
أما الإعتراض الثالث للمحقق الخراساني قده فحاصله هو عدم الثمرة من هذا البحث لأنه مع قيام الدليل على وقوع التعبد بالظن فيكون أدلُّ دليل على الإمكان ومع عدمه فالبحث عن الإمكان عقيم ولا أثر له والمسائل الأصولية لابد أن تكون لا ثمرات عملية.
وأُجيب عنه:
أولاً بإمكان إفتراض قيام دليل على التعبد بالظن مع بقاء الحاجة الى أصالة الإمكان وذلك إنّ دعوى عدم الحاجة الى أصالة الإمكان إنما تصح فيما إذا فرضنا أنَّ الدليل الذي أقيم على التعبد بالظن كان قطعياً سنداً ودلالةً بحيث يوجب القطع بالتعبد بالظن ، فيكون دليلاً على الإمكان ويصح القول بعدم الحاجة الى أصالة الإمكان ، وأما إذا فرضنا أنّ الدليل الذي أُقيم على حجية الظن كان هو السيرة العقلائية - كما هو الغالب في الظنون – فلا تتم دعوى عدم الحاجة الى أصالة الإمكان بل تبقى الحاجة إليها وذلك بإعتبار أنَّ السيرة القائمة على حجية ظن ما - كخبر الثقة - إنما تكون حجة بإمضاء الشارع لها ، والإمضاء يُستكشف من عدم الردع ، وإحراز عدم الردع يتوقف على عدم إستحالة التعبد بالظن ، أي على إمكان التعبد بالظن ، وإلا إذا لم نحرز إمكانه واحتملنا الإستحالة فلا يمكن إستكشاف الإمضاء من عدم الردع لإحتمال أن يكون عدم الردع عن هذه السيرة لأجل إحتمال الإستحالة ، بمعنى أنَّ الشارع إكتفى في ردع العقلاء عن هذه السيرة بإحتمال إستحالة التعبد بالظن وحينئذٍ لا يمكن إستكشاف الإمضاء من سكوت الشارع وعدم ردعه ، وإنما يتم ذلك حينما نفترض أنه لا وجه لسكوته وعدم ردعه إلا الإمضاء ، أي ينحصر تفسير السكوت بإمضاء السيرة ، لأنَّ غرض الشارع على تقدير عدم رضاه عن هذه السيرة لا يتحقق إلا بالردع فإذا لم يردع نستكشف الإمضاء ، وأما إذا فرضنا لعدم الردع وجهاً آخر غير إمضاء السيرة كوجود صارف يصرف العقلاء عن هذه السيرة فيكتفي الشارع به ويتحقق به غرضه وهذا الصارف وهو إحتمال الإستحالة فلا نستكشف الإمضاء من عدم الردع ، فلعل الشارع إعتمد عليه في تحقيق غرضه ولذا لم يردع عن هذه السيرة فلا يكون عدم الردع هنا كاشفاً عن الإمضاء.
فدلالة هذا الدليل - وهي السيرة - على وقوع التعبد بالظن وبالتالي إثبات الإمكان لا يكون إلا مع إحراز إمكان التعبد بالظن وأما إذا إحتملنا الإستحالة فلا يمكن إثبات وقوع التعبد الظن بهذه السيرة ، وأما إحراز الإمكان فبأصالة الإمكان التي تُثبت إمكان التعبد بالظن عند الشك في إمكان وقوعه أو إستحالته ، فيمكن حينئذٍ الإستدلال بالسيرة على حجية ذلك الظن ، فالحاجة الى أصالة الإمكان ثابتة حتى مع قيام الدليل على التعبد بالظن.
والحاصل: أنَّ السيرة العقلائية إنما تكون حجة لإثبات وقوع التعبد بالظن وتكون دليلاً على الإمكان إذا إستكشفنا الإمضاء من عدم الردع وهذا غير ممكن مع إحتمال الإستحالة إذ يمكن أن يكون الشارع إكتفى بإحتمال الإستحالة - إذا كان إحتمالاً عرفياً - عن الردع فلا يكون سكوته كاشفاً عن الإمضاء وبالتالي لا تتم دلالة السيرة على الوقوع حتى يكون دليلاً على الإمكان إلا إذا أحرزنا إمكان التعبد بالظن ، وإحرازه لا يكون إلا بأصالة الإمكان.
هذا هو الجواب الأول عن الإعتراض الثالث.
ويلاحظ عليه: إنَّ اكتفاء الشارع بإحتمال الإستحالة وعدم الردع عن السيرة إعتماداً عليه - إذا أمكن تصوره - فالمفروض حصول عند العقلاء ولكنه خلف الفرض لأنَّ المفروض هو قيام السيرة على العمل بخبر الثقة وهو يعني بناء العقلاء على إمكان التعبد به فكيف يحتملون مع ذلك الإستحالة ، لازم هذا هو الجمع بين الإمكان وإحتمال الإستحالة!
وعليه لا يمكن القول بأننا نحتاج الى أصالة الإمكان لاستكشاف وقوع التعبد بالظن من هذه السيرة ، ولا حاجة الى مسألة إحتمال الإستحالة ولزوم إحراز إمكان التعبد في مرحلة سابقة ولا يكون إلا بأصالة الإمكان كما ذُكر في الجواب ، بل يثبت بالسيرة وقوع التعبد بالظن كما لو كان الدليل على التعبد به لفظياً قطعي السند والدلالة ، فيصح كلام صاحب الكفاية بأنه مع قيام الدليل على وقوع التعبد بالظن يكتفى به لإثبات الإمكان بلا حاجة الى اصالة الإمكان.
وثانياً: أن نلتزم بما ذكره السيد الخوئي قده وحاصله:
أنَّ المقصود بالسيرة العقلائية القائمة على الإمكان التي ذكرها الشيخ الأنصاري قده في تقريره هو شيء آخر غير ما ذُكر وهو البناء على الإمكان عند قيام دليل ظني معتبر على الوقوع ،كما إذا إفترضنا أنه إقتضى ظهور كلام المولى على حجية ظن من الظنون - كخبر الثقة - وشككنا في أنَّ التعبد بهذا الظن ممكن أو مستحيل ، أي نحتمل الإمكان الوقوعي والإستحالة الوقوعية مع قيام الدليل الظني على الحجية ، فبناءً عليه نلتزم بأنَّ ظهور الكلام الظني يكون حجة ويؤخذ به على الرغم من إحتمال إستحالة مضمونه ، فعلى هذا التفسير يقال أنَّ للعقلاء بناء على الإمكان ما لم تثبت الإستحالة وهذا هو المقصود بأصالة الإمكان هنا.
وبناءً عليه يندفع الإعتراض الثالث لصاحب الكفاية ، وبيان ذلك:
لو فرضنا وجود دليل قطعي على التعبد بالظن فمجرد ذلك لا يثبت الإمكان المقصود في محل الكلام لأنَّ التعبد بالظن يعني جعل الحكم الظاهري في مورد الظن ولا مشكلة فيه في حد نفسه ، وإنما الإشكال ينشأ من إجتماع الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، وسيأتي أنَّ المحاذير التي ذكرت في البحث الآتي إنما هي في هذا الجمع بين الحكمين فقد يكونا متخالفين أو متماثلين أو متضادين وكل منهما حكم شرعي ، حكم واقعي يقول بالحرمة وحكم ظاهري أدى إليه هذا الظن يقول بالحلية ، والمهم هو أن نثبت وجود حكم واقعي في مورد الحكم الظاهري أي أن يدل دليل على أنَّ الحكم الظاهري شامل بإطلاقة لموارد قيام الأمارة ، فيكون دليلاً على الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري وبهذا يثبت الإمكان ، ومجرد القطع بثبوت الحكم الظاهري والحجية للظن فهو أمر ممكن بقطع النظر عن الحكم الواقعي ، وإنما الإشكال في كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، فمع جعل الحكم الظاهري في مورد الظن هل نرفع اليد عن الحكم الواقعي فيلزم التصويب المحال أم لا نرفع اليد عنه ولكنه قد يضاد الحكم الظاهري أو يخالفه أو يماثله فيلزم منه إجتماع الضدين أو المثلين ونحوها من المحالات الآتية ، فقيام الدليل على جعل الحكم الظاهري في مورد الظن - أي التعبد بالظن - ليس فيه إشكال ولكنه لا يثبت الإمكان بالمعنى المطروح هنا أي الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، وقيام الدليل حتى لو كان قطعياً لا يثبت هذا الإمكان المقصود وإنما الذي يُثبته هو التمسك بإطلاق أدلة الأحكام الواقعية لإثبات شمولها لموارد جعل الحكم الظاهري ، فهنا دليل ظني معتبر وهو الإطلاق ولكن نشك في إستحالته مضمونه وهو أنَّ الحكم الواقعي موجود حتى في مورد الحكم الظاهري ، فهذا الإطلاق هل يلزم منه المحال أو لا ؟
وهنا تأتي أصالة الإمكان بالمعنى الذي يذكره السيد الخوئي قده وهو وجود بناء عقلائي على الإمكان عند وجود دليل ظني معتبر يُشك في إستحالة مضمونه وإمكانه فالسيرة العقلائية على التمسك بذلك الدليل وعدم الإعتناء بإحتمال الإستحالة ، ولا يرفعون اليد عن هذا الدليل المعتبر الظاهر إلا إذا ثبتت الإستحالة دون إحتمالها ، وهذا هو معنى أصالة الإمكان.