43/04/22
الموضوع : الظن/المقدمة/الأمر الثاني / تأسيس الأصل عند الشك في الإمكان
تأسيس الأصل عند الشك في الإمكان
الكلام يقع أولاً في تأسيس الأصل عند الشك في إمكان التعبد بالظن أو إستحالته، فنقول:
لنفترض أننا لم نصل الى نتيجة في البحث الآتي فلم يثبت عندنا الإمكان ولم تثبت عندنا الإستحالة فشككنا في إمكان التعبد بالظن فما هو مقتضى الأصل في المقام ؟
وللشيخ الأنصاري عبارة صارت المحور البحث في المقام حيث قال:
(وإستدل المشهور على إمكان التعبد بالظن بأنا نقطع بأنه لا يلزم من التعبد به محال)[1] ، وهذا معناه الإمكان الوقوعي.
ثم إعترض عليه بقوله: (وفي هذا التقرير نظر)
ومراده هو أنَّ القطع بعدم لزوم محال في الواقع غير ممكن لنا لأنه موقوف على إحاطة العقل بالجهات المحسِّنَة والمقبِّحة واطلاعه على انتفاءها فلا يكون التعبد بالظن واجباً ولازماً لإنتفاء الجهات المحسِّنَة ولا قبيحاً ومحالاً لإنتفاء الجهات المقبِّحة فيكون ممكنناً ، وهذا لا يتأتى لنا لأننا لا نملك هذا الاطلاع فلا يحسن القول بأنا نقطع بعدم لزوم محال من التعبد بالظن ، والأولى تقريره بشكل آخر ، ويقول: (إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الإستحالة) أي بعد مراجعة ما ذكروه من وجوه الإستحالة لا نجد بعد التأمل فيها ما يوجب إستحالة التعبد بالظن ، ثم يقول:
(وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان) أي يكون الإعتماد على عدم وجود ما يقتضي الإستحالة بحسب ما يدركه العقلاء بعقولهم بعد التأمل ، وهذا تقرير لا بأس به.
وإعترض صاحب الكفاية عليه بثلاثة إعتراضات:
الأول: إنكار وجود سيرة وبناء من العقلاء على الإمكان عند الشك فيه، نعم قد يحصل لشخص أو للعقلاء بعد البحث والمراجعة القطع بعدم وجود ما يوجب الإستحالة ، لكنه غير دعوى وجود سيرة عقلائية على البناء على الإمكان عند الشك في الإمكان والإستحالة من دون فرض القطع بعدم وجود ما يوجب الإستحالة.
الثاني: ولو سلمنا وجود السيرة على الإمكان عند الشك فيه وفي الإستحالة ولكن نمنع من حجيتها، لأنَّ حجيتها إنما تكون بالإمضاء من قبل الشارع ، ولا يوجد دليل قطعي على الإمضاء، وغاية ما يوجد هو الظن بالإمضاء لكنه لا ينفع في المقام لأنَّ الكلام في حجية الظن ، وكيف يُستدل على حجية الظن بظنٍ مثله ، فلابد من القطع بالإمضاء حتى تكون السيرة حجة ومن ثم البناء على الإمكان عند الشك فيه ولا دليل على هذا القطع.
الثالث: لو سلَّمنا جميع ما تقدم لكن لا فائدة تترتب على هذا البحث ، وذلك بإعتبار أنَّ البحث عن إمكان التعبد بالظن أو إستحالته ليس بحثاً فلسفياً وإنما هو بحث أصولي فلابد من إفتراض ترتب ثمرة عملية عليه ، والبحث عن إمكان التعبد بالظن وعدم إمكانه تارة يكون مع قطع النظر عن ما دلَّ على وقوعه - وهو البحث الآتي - وهذا لا ثمرة عملية له لأنَّ الثمرة تكون لوقوع التعبد به كحجية خبر الثقة ، أما البحث عن مجرد الإمكان بقطع النظر عن الأدلة الدالة على وقوعه فلا ثمرة فيه.
وأخرى يكون البحث عن الإمكان بلحاظ ما دلَّ على وقوعه من الأدلة الدالة على وقوع التعبد بالظن ، ولكنه لا أثر له أيضاً إذ بعد فرض وقوع التعبد به يكون هذا الوقوع أدل دليل على الإمكان ، فلا أثر لهذا البحث على كِلا التقديرين أما على الأول فلعدم ترتب ثمرة عملية عليه ، وأما على الثاني فلا معنى للبحث عن إمكانه بعد فرض وقوعه.
والتعليق على هذه الإعتراضات:
أما الأول فالظاهر أنه وارد وتام ، فدعوى وجود سيرة على عدم لزوم المحال من التعبد بالظن عند الشك في إمكانه واستحالته هي أول الكلام ولا وضوح فيها.
وأما الثاني فيلاحظ عليه أنه إفترض عدم تحقق القطع بالإمضاء في محل الكلام ثم انتقل الى إفتراض الظن وقال لا يمكن التعويل عليه لأنَّ الكلام في إثبات حجيته فما الفرق بين هذه السيرة وبين غيرها من السِير العقلائية إذ لا إشكال في إمكان إستفادة القطع بالإمضاء من عدم الردع في غير هذه السيرة فلماذا نقطع هناك بالإمضاء ولا نقطع به هنا ؟
ويمكن توجيه كلامه والجواب عن هذا الاستفهام بإبراز نكتتين يتبين منهما وجود الفرق بين السيرة في محل الكلام - بعد فرض تسليمها - وبين السِير العقلائية الأخرى:
النكتة الأولى: أنَّ استبعاد القطع بالإمضاء بإعتبار أنَّ إفتراضه يعني القطع بثبوت أصالة الإمكان عند الشارع ورضاه بها وحيث أنَّ هذه الأصالة حكم ظاهري - لثبوتها في حال الشك - فيحصل القطع بإمكان جعل الحكم الظاهري شرعاً بل القطع بوقوعه وهذا خلف المفروض ، ولذا استبعده.
وببيان آخر: القطع بالإمضاء يساوق القطع بثبوت أصالة الإمكان شرعاً عند الشك في الإمكان والإستحالة ، وأصالة الإمكان حكم ظاهري ثابت عند الشك في الإمكان والإستحالة ، فيثبت بهذا أنَّ التعبد بالحكم الظاهري عند الشك أمرٌ ممكن لأنَّ القطع بالإمضاء يدل على وقوعه لا على إمكانه فقط ولكن البحث عن أصل إمكانه ، هذا خلف.
وبعبارة ثالثة التعبد بالظن يعني جعل الحجية له ، والحجية حكم ظاهري مجعول في ظرف الشك ، والكلام في إمكان التعبد يعني إمكان جعل الحكم الظاهري عند الشك في إمكانه واستحالته ومع القطع بالإمضاء - الذي يستلزم القطع بثبوت أصالة الإمكان شرعاً ورضا الشارع بالبناء على الإمكان عند الشك فيه - يثبت وقوع التعبد بالحكم الظاهري فضلاً عن إمكانه والحال أنّ البحث في أصل الإمكان ، فلابد من إفتراض عدم حصول القطع بإمضاء الشارع وإلا ثبتت أصالة الإمكان من دون حاجة الى تقريرها بوجه آخر ، ومع إفتراض عدم حصول القطع ينفتح البحث عن الدليل على إمكان التعبد بالظن عند الشك فيه.
والحاصل: أنَّ القطع بإمضاء سيرة العقلاء القائم على أصالة الإمكان يكفي لإثبات إمكان التعبد بالظن وجعل الحكم الظاهري وعدم إستحالته ولا حاجة الى التمسك بأصالة الإمكان لإثبات الإمكان كما هو المفروض في محل الكلام، ومن هنا كان إفتراض القطع بالإمضاء خُلفاً لأنه يعني إثبات الإمكان بإعتبار القطع به لا إثباته مع الشك فيه كما هو المفروض في محل الكلام.
النكتة الثانية: إنَّ إستكشاف الإمضاء في السِيَر يكون من عدم ردع الشارع عنها ، وحينئذِ يُدعى أنَّ عدم الردع عن السيرة في محل الكلام لا يكشف عن الإمضاء ، وأما عدم الردع عن السيرة العقلائية على العمل بخبر الثقة - ولو في أغراضهم العقلائية - فيُستكشف منها الإمضاء إذ لو لم يرضَ الشارع عن العمل بها لردع عنها وإلا لعَرَّض أغراضه للخطر والتفويت لأنّ هذه السيرة في معرض الإمتداد الى أغراض الشارع ، وبهذا يكون سكوته وعدم ردعه كاشفاً عن الإمضاء ، وهذا غير متحقق في السيرة في محل الكلام لأنَّ البناء على عدم لزوم المحال من إمكان التعبد بالظن وسكوت الشارع عنها لا يُعرض أغراضه للخطر ، بخلاف البناء على وقوع التعبد بالظن من قِبل الشارع الذي يُعرض أغراضه للخطر فلابد من الردع إن لم يرضَ عن هذه السيرة ومع عدمه نستكشف الإمضاء ، وأما البناء على الإمكان المجرد فلا يعرض أغراضه للخطر ، وهذه خصوصية في هذه السيرة تفترق بها عن السِير الأخرى.