الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الظن/المقدمة/الأمر الأول

الكلام يقع في الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً ، وجرت عادتهم على تقديم مقدمة يُبحث فيها عن أمور ترتبط بأصل البحث، وفهرستها هي:

الأمر الأول: في الفرق بين القطع وبين الظن ، قالوا أنّ الفرق يكمن في أنَّ القطع حجيته ذاتية لا تحتاج الى جعل من جاعل بينما الظن حجيته ليست ذاتية فهي بحاجة الى جعل من جاعل أو طرو حالات ومقدمات معينة تنتج حجيته عقلاً ، وهذا الأخير ناظر الى حجية الظن بناءً على الإنسداد وتقريره بالحكومة ، بمعنى حكم العقل بحجيته لا أن نستكشف حجيته شرعاً وإلا كان كالإمارات المعتبرة شرعاً ، وعلى الحكومة لا تكون حجية الظن ذاتية.

ثم ذكروا أنَّ الحجية الذاتية ثابتة للقطع بلا إشكال ولا خلاف في مسألتين الأولى في ثبوت أصل التكليف به والثانية في سقوط الحكم به ، بمعنى أنَّ القطع حجة بذاته في إثبات التكليف وحجة في الإمتثال وسقوط التكليف ، فكما أنَّ القطع بأصل التكليف يوجب إثباته على المكلف فكذلك القطع بالإمتثال يوجب سقوط التكليف ، فهو حجة في المسألتين.

أما الظن فلا إشكال في أنه ليس حجة بذاته في المسألة الأولى - إثبات التكليف - وإنما هو بحاجة الى جعل جاعل أو طرو مقدمات تنتج حجيته حتى نُثبت به التكليف ، هذا لا خلاف فيه ، وأما المسألة الثانية فوقع فيها الخلاف وأنَّ الظن بالإمتثال هل يُسقط التكليف أم لا ؟

المعروف أنه لا يسقط التكليف به كما لا يثبت به التكليف ، ولكن هناك مخالف ذهب الى أنَّ الظن بالإمتثال يُسقط التكليف كالقطع به.

الأمر الثاني: في إمكان التعبد بالظن أو إستحالته ، وبعبارة أخرى هل يلزم من التعبد بالظن وجعل الحجية له محاذير ثبوتية بنحو يكون التعبد به محالاً أو لا يلزم ذلك.

وفي هذا الأمر يُتعرض الى تأسيس الأصل عند الشك في الإمكان أو عدمه ، وهذا ما تعرض له الشيخ في الرسائل وبنى على أصالة الإمكان على فرض الإنتهاء الى الشك ، فالأصل هو الإمكان.

ومن أهم المحاذير المتصورة التي قد يقال بعدم الإمكان على أساسها هي شبهة إبن قِبة ، ومن هنا يتم التعرض لهذه الشبهة في الأمر الثاني.

الأمر الثالث: تأسيس الأصل عند الشك في الحجية بعد الفراغ عن الإمكان ، فعند عدم الدليل على حجية أمارة من الأمارات ما هو الأصل فيها ، ويتعرضون فيه الى مدرك هذا الأصل وكيفية تقريره.

وتبعاً لهم نتعرض لهذه الأمور الثلاثة قبل الدخول في أصل البحث وهو البحث عن الأمارات المعتبرة وما هو دليل إعتبارها.

أما الأمر الأول - الفرق بين القطع وبين الظن - فنُلاحظ عليه بملاحظتين:

الملاحظة الأولى: أنَّ التفريق بين القطع والظن من حيث أن حجية القطع ذاتية وحجية الظن بحاجة على جعل وما يشبهه مبني على مسلك قبح العقاب بلا بيان ، فإذا حصل ظن بالتكليف فتجري القاعدة وتؤمن من ناحية التكليف المظنون لأنَّ البيان في القاعدة مفسر بالعلم والوصول ، وهذا يعني أن الظن لا يكون حجة ، وأما في القطع فلا يحكم العقل بالتأمين ، فنقول على هذا المسلك إنَّ القطع يُثبت التكليف وينجزه على المكلف لعدم التأمين من ناحيته ، أي لعدم جريان القاعدة عند القطع بالتكليف ، وأما عند الظن فتجري القاعدة وتؤمن من ناحية التكليف المظنون فلا يتنجَّز على المكلف ، وهذا معنى إنَّ الظن ليس حجة في إثبات التكليف إلا بالجعل ، فهذا الفرق واضح جداً بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وأما على المسلك الآخر الذي ينكر القاعدة ويؤمن بمنجزية الإحتمال فالظاهر أنه هذا الكلام غير تام ، لأنَّ الحجية على هذا المسلك تكون من لوازم مطلق الإحراز سواءً كان إحرازاً قطعياً أو ظنياً أو إحتمالياً ، فلا يوجد تأمين من ناحية التكليف عند إحتماله فضلاً عن الظن به ولذا يحكم العقل بمنجزية الإحتمال للتكليف ، وهذا يعني أنَّ التكليف يثبت بالإحتمال والظن ، فتثبت الحجية لمطلق الإحراز والانكشاف لو كان إحرازاً إحتمالياً ويكون حجة في إثبات التكليف كما أنَّ القطع حجة في إثباته.

وبعبارة أوضح: أنَّ الظن يثبت به التكليف بحكم العقل وبلا حاجة الى جعل الحجية له ، وما نقوله في القطع نقوله في الظن والإحتمال فلا يبقى فرق بين القطع والظن ، والفرق على هذا المسلك هو عدم وجود مؤمِّن من ناحية التكليف عند الظن به ويحكم العقل بأن الظنّ ينجز التكليف كما أنَّ القطع ينجزه ، بل الإحتمال يثبت به التكليف ويتنجز به.

نعم تقدم في بحوث سابقة أنَّ الفرق بن القطع وبين الظن والإحتمال يكون في جهة أخرى وهو أنَّ حكم العقل بالمنجزية - هو حكم تعليقي دائماً معلق على عدم ورود الترخيص من قبل المولى - في موارد القطع بالتكليف لا مجال للترخيص الظاهري فيه لانتفاء موضوعه وهو الشك ، فيُعلم بعدم ورود الترخيص في موارد القطع بالتكليف ، ولذلك تكون المنجزية فعلية ، لكنه لا يعني أنَّ حكم العقل بالمنجزية تنجزي بل يبقى حكماً تعليقياً إلا أنه في موارد القطع ما عُلِّق عليه يكون محرزاً.

أو قل: لا يرد الترخيص في موارد القطع بالتكليف لعدم إنحفاظ مرتبة الحكم الظاهري ، وبذلك يكون التكليف منجَّزاً ، وفي موارد الظن فضلاً عن الإحتمال تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة والشك متحقق فيعقل ورود الترخيص فتكون المنجزية معلقة على عدم ورود الترخيص ، فإذا ورد إرتفع موضوع الحكم العقلي بالمنجزية.

الملاحظة الثانية: ما ذُكر من التفريق بين إثبات أصل التكليف وبين سقوط التكليف ، فقد أشير الى الخلاف في أنَّ الظن بالتكليف يُسقط التكليف أو لا يسقطه ، وقلنا لا إشكال في أنَّ الظن بالتكليف لا يثبت به التكليف ذاتاً بناءً على مسلك المشهور إلا بجعل جاعل أو طرو مقدمات تنتج حجيته ، لكن في مقام إسقاط التكليف قال بعضهم أنَّ الظن بالإمتثال يُسقط التكليف خلافاً للمشهور ، والملاحظة تقول لا فرق بينهما فالظن ليس حجة ذاتاً لا في إثبات التكليف ولا في إسقاطه ولابد من القطع بالإمتثال حتى يسقط التكليف ، بل نقول هذا على كِلا المسلكين ، أما على مسلك حق الطاعة فواضح لأنَّ إحتمال التكليف يكون منجِّزاً ، والظن بالإمتثال لا يلغي إحتمال عدم الإمتثال وبقاء التكليف ، وحيث أنَّ إحتمال التكليف منجز له فلا فراغ إلا مع القطع بالإمتثال.

وأما على مسلك قبح العقاب بلا بيان فالظن لا يكون مثبتاً للتكليف ولا الظن بالإمتثال يكون مسقطاً للتكليف لأنَّ مجرد الظن بالإمتثال بعد العلم بالتكليف لا يوجب سقوط التكليف حتى عند المشهور لأنهم يقولون بقاعدة الإشتغال وأنَّ العلم بالتكليف يستدعي الفراغ اليقيني ، فلا يُكتفى بالظن بالإمتثال لإسقاط التكليف ، فعلى كِلا المسلكين الظن بالإمتثال لا يُسقط التكليف، وهذا هو الصحيح.

لكن بالرغم من هذا أشار صاحب الكفاية الى وجود مخالف وذكر أنه يرى أنَّ الإمتثال الظني يُسقط التكليف وأشار إليه بقوله:

(وإن كان ربما يظهر من بعض المحققين الخلاف والإكتفاء بالظن بالفراغ ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل)[1] أي أنَّ العقل عندما يحكم بلزوم إمتثال أوامر المولى فحكمه مبني على حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون ، والعلم بالتكليف يستلزم العلم بالضرر أو الظن به ، والعقل يحكم بوجوب دفع الضرر المظنون فضلاً عن المعلوم ، فالعقل يلزم المكلف بالإمتثال ودفع الضرر معلوماً كان أو مظنوناً ، وحينئذِ إذا علم المكلف بالتكليف وظن بالإمتثال فلا ظن بالضرر وإنما هناك إحتمال الضرر ، والظن بالإمتثال يلازم الظن بعدم الضرر ، ولا يحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، وإنما يحكم بوجوب دفع الضرر المظنون أو المعلوم ، وعليه يكتفي بالإمتثال الظني ولا يكون التكليف المعلوم حينئذٍ منجَّزاً عليه بحكم العقل ، لأنَّ حكم العقل بلزوم الإمتثال مستند الى قاعدة لزوم دفع الضرر المظنون ولا يوجد مع الإمتثال الظني إلا إحتمال الضرر ، هذا ما أشار إليه صاحب الكفاية بقوله:

(ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل) ، فلا يحكم العقل بتنجز التكليف المعلوم عند إمتثاله إمتثالاً ظنياً وهذا يعني سقوط التكليف.

وإعترض عليه السيد الخوئي قده أولاً بإنكار المبنى فإنَّ المقصود بالضرر المحتمل هو العقاب الأخروي والعقل يحكم بلزوم دفع العقاب حتى لو كان محتملاً ، نعم هناك كلام في الضرر الدنيوي المحتمل هل يجب دفعه أم لا يجب ، أما الضرر الأخروي فيجب دفعه وإن كان محتملاً ، فيكون كالمظنون.

ثانياً إنَّ الإلتزام بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل يستلزم الإكتفاء بالإمتثال الإحتمالي وهو واضح الفساد بل ضروري البطلان.


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص275.