الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: القطع/العلم الإجمالي/الإمتثال الإجمالي في العبادات/ وجوه عدم الإكتفاء به

كان الكلام في كفاية الإمتثال الإجمالي في العبادات، وهو يقع تارة في كفايته مع التمكن من الإمتثال التفصيلي الوجداني ، وأخرى في كفايته مع التمكن من الإمتثال التفصيلي التعبدي ، وثالثة في كفايته مع عدم التمكن منهما ، فالكلام يقع في ثلاث جهات:

الجهة الأولى: في كفاية الإمتثال الإجمالي الوجداني مع التمكن من الإمتثال التفصيلي الوجداني ، كما إذا تمكن من سؤال الإمام عليه السلام ولكن تركه وامتثل إمتثالاً إجمالياً فهل يكفي ذلك أو لا ؟

المعروف عدم كفايته باعتبار أنَّ الإمتثال الإجمالي يقع في طول الإمتثال التفصيلي ، ويُستفاد من كلماتهم الإستدلال على ذلك بعدة وجوه ، بعضها مختص بما إذا كان الإمتثال الإجمالي مستلزماً لتكرار العبادة ، وبعضها لا يختص بذلك ، وهي:

الوجه الأول: دعوى عدم إمكان قصد الوجه في العبادة مع الإمتثال الإجمالي ، فمن يصلي قصراً وتماماً أو يصلي الظهر والجمعة إحتياطاً لا يتمكن من قصد الوجه ، وقصد الوجه معتبرٌ في العبادة ، أما أنه لا يتمكن من قصد الوجه فواضح إذ لا يتمكن أن يصلي قصراً بنية الوجوب ولا أن يصلي تماماً كذلك لأنه لا يعلم أياً منهما هو الواجب ، ومع التمكن من الإمتثال التفصيلي يكون متمكناً من قصد الوجه ، وحيث أنه معتبر في العبادة ويمكن تحصيله فلا يجوز تركه والمصير الى الإمتثال الإجمالي.

وجوابه: إنَّ أصل المبنى غير ثابت وإن نُسِب الى جمهور المتكلمين وبعض الفقهاء ، ولكن لا دليل على إعتبار قصد الوجه ، مع التشكيك في صدق النسبة أيضاً لقوة إحتمال أن يكون مرادهم قصد القربة إليه سبحانه وقصد إمتثال الأمر لا قصد الوجه ، في مقابل أن يأتي بالفعل لا للتقرب إليه سبحانه بل للرياء ونحوه ، وعلى تقدير ثبوت النسبة نقول لا دليل على إعتبار قصد الوجه.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني قده على ما نُقل في أجود التقريرات ، وهو يختص بما إذا كان الإمتثال الإجمالي مستلزماً لتكرار العبادة ، وحاصله :

أنَّ الإطاعة المعتبرة في العبادات هي الإنبعاث عن بعث المولى والتحرُّك من تحريكه ، والطاعة بهذا المعنى لا تتحقق مع الأمثال الإجمالي لأنَّ المحتاط عندما يأتي بالقصر أولاً لا ينبعث من بعث المولى وإنما ينبعث عن إحتمال بعث المولى ، وفرق بينهما فهو يتحرك عن إحتمال الأمر وإحتمال البعث لا عن نفس الأمر والبعث ، ومع التمكن من الإنبعاث عن نفس الأمر بحسب الفرض لا تصل النوبة الى الإنبعاث عن إحتمال الأمر.

ثم يقول بل يستقل العقل بعدم حُسن التحرُّك والانبعاث عن إحتمال البعث وإحتمال الأمر مع التمكن من التحرُّك عن نفس الأمر ونفس البعث ، أي لا يحكم العقل بحُسن الإمتثال الإجمالي مع التمكن من الإمتثال التفصيلي لأنَّ مرتبة الأثر متأخرة عن مرتبة العين ، فكلما أمكن التحرُّك عن نفس الإرادة المولوية في مقام الطاعة فلا حُسن في التحرُّك عن إحتمالها ، والمحتاط يتحرك دائماً عن إحتمال الإرادة وإحتمال الأمر والبعث.

ومراده من الأثر هو إحتمال الأمر والبعث ومراده من العين نفس الأمر ونفس البعث والإرادة ، فمرتبة إحتمال الأمر والإرادة متأخرة عن مرتبة نفس الأمر ونفس الإرادة ، فلابد أن يكون الإنبعاث عن نفس الأمر والإرادة مع التمكن منه ولا يُصار الى الإنبعاث عن احتمالهما بل لا يراه العقل حسناً.

ويلاحظ عليه:

أولاً: أنَّه غير واضح ولم يذكر دليلاً عليه ، والسؤال هنا أيُ علاقة بين مسألة تأخر مرتبة إحتمال الأمر عن مرتبة نفس الأمر؟ وما علاقتها بمسألة الحُسن العقلي بالانبعاث عن الأمر دون الإنبعاث عن إحتمال الأمر ؟

أي كيف تؤثر المسألة الأولى في الثانية ، كيف تؤثر الطولية في الحُسن أو عدم الحسن ، هذا غير واضح ، وحيث أنه لم يُقم برهاناً على ذلك فتكون مجرد دعوى بلا دليل.

ثانياً: أنَّ الأمر بوجوده الواقعي لا يكون محركاً للمكلف وإنما الذي يحركه هو العلم بالتكليف ، وهذا متفق عليه ، فننقض عليه بأنَّ الإنبعاث في موارد الإمتثال التفصيلي ليس عن نفس الأمر وإنما عن العلم بالأمر ، ومرتبة العلم بالأمر في عرض مرتبة إحتمال الأمر لا في طولها ، ولا يحكم العقل بأنه مع التمكن من الأول لا يحسن الثاني ، وقد بنى كلامه على الطولية بينهما فإذا قلنا لا طولية بينهما فلا يتم هذا البرهان.

ثالثاً: لا نُسلِّم أنَّ الطاعة في العبادة بمعنى الإنبعاث عن بعث المولى والتحرُّك عن تحريكه غير متحققة في الإمتثال الإجمالي ، بل الطاعة متحققة فيه لأنَّ المحرِّك للمكلف هو التكليف المعلوم بالإجمال ولولاه قد لا يتحرك للإتيان بكِلا الطرفين ، فالمحرِّك للمحتاط هو نفس التكليف المعلوم إجمالاً فالطاعة بمعنى الإنبعاث عن بعث المولى والتحرُّك عن تحريكه موجودة حتى في الإمتثال الإجمالي كما في الإمتثال التفصيلي.

بل قد يكون هذا التحرُّك أرقى في العبودية والإنقياد من الإمتثال التفصيلي لأنه يتحرك عن التكليف المعلوم بالإجمال المردد بين طرفين ويأتي بهما بداعي ذلك التكليف الواصل إليه بالعلم الإجمالي.

الوجه الثالث: هو دعوى أنَّ الإمتثال الإجمالي بتكرار العبادة مع التمكن من الإمتثال التفصيلي لعبٌ واستهزاء بأوامر المولى وهو قبيح عقلاً وحرام شرعاً فيكون موجباً لبطلان العبادة لإستحالة التقرُّب بالقبيح.

ونوقش فيه كما في الكفاية أولاً: بعدم الملازمة بين تكرار العبادة وصدق عنوان اللعب بأوامر المولى ، بل قد يكون التكرار بداعي عقلائي فلا يكون لعباً ولا إستهزاءً ، كما إذا فرضنا أنه يصعب على المكلف تحصيل العلم التفصيلي بالتكليف فيحتاط ويمتثل إمتثالاً إجمالياً ، فهنا يوجد داعي عقلائي للإحتياط ومع وجوده لا يكون لعباً ولا إستهزاءً ، ولا يمكن الجمع بينهما ، فليس كل إحتياط مستلزماً اللعب والإستهزاء كما هو المدعى في هذا الوجه.

وأجاب السيد الخوئي قده عن هذه المناقشة بأنَّه لا إشكال في إعتبار قصد القربة في العبادة ، وحينئذٍ إن فرضنا أنَّ الإحتياط والتكرار ليس له داعٍ عقلائي أصلاً فيكون لعباً وإستهزاءً فيمنع من التقرب ، وإن فرضنا أن هناك داعٍ عقلائي للإحتياط والتكرار فهو يمنع من صدق اللعب والإستهزاء ولكنه لا يوجب صحة العبادة إذ لا يكفي في صحتها مجرد وجود الداعي العقلائي للتكرار - كصعوبة تحصيل العلم التفصيلي - وإنما تصح مع وجود قصد القربة المقوّم لها.

وبعبارة أخرى لا يكفي في عبادية العبادة صدورها مع الداعي العقلائي نعم هو يمنع من صدق اللعب والإستهزاء عليها ولكنه لا يكفي في إثبات صحة العبادة بحيث تنتفي العبادة بإنتفاء الداعي العقلائي وتتحقق بتحققه ، وإنما تتحقق العبادية بقصد التقرب الى إليه سبحانه وتعالى.

ويلاحظ عليه أنَّ الذي يفهم من كلام صاحب الكفاية ليس هو ما ذكره فلا يُريد أن يجعل من وجود الداعي العقلائي بديلاً عن قصد القربة ، وإنما مراده – في مقام رد الوجه الثالث - هو أنَّ التكرار إنما يصدق عليه عنوان اللعب والإستهزاء مع عدم وجود الداعي العقلائي ويكون قبيحاً ولا يمكن التقرب بالقبيح ، وأما مع وجوده فلا يصدق اللعب والإستهزاء ، وأما الحكم بصحة العبادة وما هي الأمور المعتبرة فيها فهو شيء آخر ليس هو بصدده ، فيمكن الحكم بصحة العبادة المتكررة إذا جاء بها بقصد القربة مع وجود الداعي العقلائي ، فهذا الجواب غير تام.

وثانياً: - والمناقشة لصاحب الكفاية أيضاً - إنَّ اللعب إنما يضر بالعبادة إذا كان لعباً في أمر المولى لا ما إذا كان لعباً في كيفية إمتثال أمر المولى ، ولا يحكم العقل بقبحه ، فمع وجود الداعي للطاعة وكونه قُربياً إلا أنه لعبٌ في كيفية الطاعة والإمتثال فليس أمراً يحكم العقل بقبحه.