الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/وجوب الموافقة القطعية/ كلام المحقق النائيني وجوابه

كان الكلام وجوب الموافقة القطعية وهل يمكن الترخيص في بعض الأطراف أم لا ، وبعبارة أخرى هل العلم الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية أم هو مقتضٍ لها ؟

قلنا أنَّ المحقق العراقي ذهب الى العلية التامة في هذا المقام كما ذهب إليها في المقام الأول.

وفي مقابل ذلك ذهب المحقق النائيني قده الى القول بالإقتضاء في هذا المقام وإن ذهب الى العلية التامة في المقام الأول ففرق بين المقامين ، ونقل عنه الإستدلال على هذا التفريق بأنَّ العلم الإجمالي إنما كان علة تامة لحرمة المخالفة القطعية في المقام الأول بإعتبار أنَّها عصيان للمولى يحكم العقل بقبحه فلا يمكن الترخيص فيه ، والعصيان يتحقق بالترخيص في جميع الأطراف ، وهذا يعني أنَّ العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية.

وأما في محل الكلام - المقام الثاني - فالترخيص فيه يكون في بعض الإطراف وهو ترخيص في المخالفة الإحتمالية ولا مانع منه كما هو الحال في الشبهات البدوية ، فإن المخالفة الإحتمالية بإجراء البراءة في الشبهات البدوية واردة ولا يحكم العقل بقبحها ، ولذا نقول بإستحالة الترخيص في جميع الأطراف ويترتب عليه القول بالعلية في المقام الأول ، ونقول في محل الكلام بإمكان الترخيص في بعض الأطراف – أي بالإقتضاء - لأنه مخالفة إحتمالية لا مانع منها.

ويلاحظ عليه : أنه إستدل على الإقتضاء بإمكان جعل الترخيص في بعض الأطراف لأنه ترخيص في المخالفة الإحتمالية ولا مانع منه ، بينما المفروض أن يستدل بالاقتضاء على جواز الترخيص في بعض الأطراف لا العكس ، وإلا إن لم نفرغ عن الإقتضاء وقلنا بالعلية فلا يجوز الترخيص في بعض الأطراف ، فلابد من إثبات الإقتضاء قبل ذلك.

وبعبارة أوضح : إنَّ الإستدلال على الإقتضاء بإمكان جعل الترخيص في بعض الأطراف أشبه بالمصادرة لأنَّ القائل بالعلية يقول لا يجوز الترخيص في بعض الأطراف أيضاً ، فلابد من إثبات الإقتضاء أولاً بمعزل عن مسألة الترخيص في بعض الأطراف ويكون الترخيص في بعض الأطراف من نتائج القول بالإقتضاء ، هذا ما نُقل عنه قده .

وهناك وجه آخر يُستفاد من كلماته يمكن أن يُستدل به على الإقتضاء في المقام وحاصله:

أنَّ العلم بالتكليف لا يتطلب أكثر من الإمتثال بحكم العقل ، ولكنه لا يجب أن يكون إمتثالاً وجدانياً بل يمكن أن يكون إمتثالاً تعبدياً ، فالإشتغال اليقيني بالتكليف يستلزم الإمتثال اليقيني وهو على نحوين:

إمتثال وجداني وإمتثال تعبدي ، أما الوجداني فيحصل بترك كِلا الطرفين في الشبهة التحريمية والإتيان بهما في الشبهة الوجوبية ، وأما الإمتثال التعبدي فيُكتفى فيه بترك أحد الطرفين في الشبهة التحريمية ولا مانع من إرتكاب الآخر.

وأما كونه إمتثالاً تعبدياً فلأنّ دليل الأصل الذي يجري في هذا الطرف يجعله بديلاً عن الواقع ، ففي الشبهة الوجوبية مثلاً لو دار الأمر بين صلاة الجمعة وصلاة الجمعة فالامتثال الوجداني يكون بالإتيان بهما معاً ، والإمتثال التعبدي يكون بجعل الشارع ما يأتي به المكلف بدلاً عن الواقع ، بمعنى أنه يكتفي في مقام الإمتثال بالإتيان بأحد الطرفين ، فإن صلى الظهر وكانت هي الواجب الواقعي فقد إمتثله وإلا فالشارع جعلها بدلاً عن الواجب الواقعي ، وهذا هو الإمتثال التعبدي بإعتبار دلالة الدليل الشرعي على البدلية.

والإمتثال الذي يتطلبه العلم هو الجامع بين الإمتثال الوجداني والإمتثال التعبدي ، فقطعُ المكلف بالتكليف في موارد العلم الإجمالي وإشتغال ذمته به وتحصيل الفراغ اليقيني لا يحصل إلا بأن يُصلي كلتا الصلاتين لولا جعل البدل وهو الإمتثال الوجداني ، إلا أنَّ قاعدة الإشتغال لا تتطلب خصوص الإمتثال الوجداني بل الأعم منه ومن التعبدي ، وهذا يعني عدم وجوب الموافقة القطعية ، فإذا فرضنا في محل الكلام أنَّ أدلة الترخيص لا مانع من شمولها لأحد الطرفين فهو يعني جعل البدل وإكتفاء الشارع به عن الواقع ، وهذا يعني إمكان إقتصار المكلف على أحد الطرفين.

ويمكن تصور ذلك في الشبهة التحريمية أيضاً وذلك بأن يرتكب أحد الطرفين مع ترك الطرف الآخر لأنَّ الشارع جعل أحد الطرفين بدلاً عن الحرام الواقعي فلابد من تركه مع جواز إرتكاب الطرف الآخر ، وهذا إمتثال إجمالي ولا مانع منه.

والنتيجة لا يجب على المكلف الإتيان بكِلا الطرفين في الشبهة الوجوبية ولا يجب عليه تركهما في الشبهة التحريمية ، أي لا تجب عليه الموافقة القطعية ، وهذا يعني أنَّ العلم الإجمالي ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية وإنما هو مقتضٍ لها ، فإذا إحتف بجعل البدل فلا تجب الموافقة القطعية ، هذا ما يُستفاد من كلماته قده.

وخلاصة البحث الثبوتي في المقام الثاني هو أنَّ الصحيح هو القول بالإقتضاء كما قلنا به في المقام الأول ، بل القول به في هذا المقام أهون بكثير من القول به هناك ، لنفس ما تقدم سابقاً من أنَّ قبح المعصية ووجوب إطاعة المولى أحكام إحترامية معلقة على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ولا يبقى العقل حاكماً بالقبح حتى مع ورود الترخيص في جميع الأطراف في المقام الأول أو في أحد الأطراف في محل الكلام ، وإنما يكون إرتكاب أحد الأطراف ممنوع عقلاً إذا لم يرخص فيه الشارع ، هذا تمام الكلام في البحث الثبوتي.

أما البحث الإثباتي فقد تقدم أنه لا يأتي إلا بعد إفتراض القول بالإمكان في البحث الثبوتي ، فبعد القول بإمكان جعل الترخيص في أحد الطرفين نتكلم عن وجود المانع عن شمول أدلة الأصول العملية لأحد الطرفين أو عدم وجوده ، وأما إذا قلنا بإستحالة فلا معنى للبحث عن شمول أدلة الأصول لأحد الطرفين ، بل لا يكون الدليل شاملاً لأحدهما قطعاً.

فبناء على القول بالإقتضاء ندخل في البحث الإثباتي وليس كل ممكن واقع ، فهل تدل الأدلة على جعل الترخيص في أحد الطرفين أم لا ؟

إستُدل على المانع الإثباتي من إجراء الأصل في أحد الطرفين بالدليل المعروف وهو :

إنّ إجراء الأصل في أحد الطرفين تارة يكون مع إجراءه في الطرف الآخر وأخرى يكون يجري فيه فقط ، أما الأول فقد فرغنا عن وجود ما يمنع منه إما ثبوتاً على الرأي الآخر وإما إثباتاً على المختار.

وأما الثاني فهو ترجيح بلا مرجح ، لأنَّ نسبة دليل الأصل الى كِلا الطرفين واحدة ولا خصوصية لأحدهما على الآخر.

فإن قيل يجري الأصل في الطرف المردد لا فيهما ولا في أحدهما المعين .

فقد أجابوا عنه بأنَّ الفرد المردد لا وجود له في الخارج ، فلا يمكن أن يجري فيه الأصل .

وهذا يعني أنَّ الأصل لا يجري في أحد الطرفين كما لا يجري في جميع الأطراف.

وبصياغة أخرى لهذا المانع نقول إنَّ إطلاق دليل الأصل لأحد الطرفين معارض بإطلاقه للطرف الآخر للنكتة المتقدمة وهي أنَّ نسبة كِلا الطرفين الى دليل الأصل العملي واحدة ، فيتكاذب شمول دليل الأصل لهذا الطرف وشموله لذاك لأنه يؤدي الى الترخيص في المخالفة القطعية والمفروض عن عدمها ثبوتاً أو إثباتاً ، فيتعارض إطلاق دليل الأصل لهذا الطرف وإطلاقه لذاك الطرف تعارضاً داخلياً ولا مرجح لأحدهما فيتساقطان ، وحينئذٍ يبقى إحتمال التكليف في كل طرف بلا مؤمِّن فيتنجَّز فتجب الموافقة القطعية ، هذا هو المانع الإثباتي الذي ذُكر في كلاماتهم.

وإعترض المحقق العراقي قده على هذا المانع بأنَّ هذا الدليل يُثبت عدم إمكان شمول دليل الأصل لكلا الطرفين للزوم الترخيص في المخالفة القطعية ، ونُسلّم أيضاً إثباته لعدم إمكان جريانه في أحد الطرفين لأنه ترجيح بلا مرجح ، ولكن لا مانع من القول بأنَّ دليل الأصل المؤمِّن يشمل كِلا الطرفين بشرط ترك الآخر في الشبهة التحريمية ، وبذلك يندفع محذور الترخيص في المخالفة القطعية لترك أحدهما بحسب الشرط ، ويندفع أيضاً محذور الترجيح بلا مرجح لأنَّ المفروض جريان الأصل في كِلا الطرفين بنحو مشروط.

وبعبارة أخرى أن المحذور إنما يلزم إذا جرى الأصل في كِلا الطرفين بنحو مطلق - أي سواءً إرتكبتَ الآخر أم لم ترتكبه - وأما مع شرط ترك الطرف الآخر فلا يؤدي ذلك الى الترخيص في المخالفة القطعية ، فنلتزم بجريان الأصل العملي في جميع الأطراف لكن بنحو مشروط لا بنحو مطلق ، وبذلك نتخلص من جميع المحاذير ، ويثبت أيضاً عدم الدليل على وجوب الموافقة القطعية ، فلا مانع إثباتي من جريان الأصل في جميع الأطراف بنحو مشروط.