الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/وجوب الموافقة القطعية/ كلام المحقق العراقي وجوابه

المقام الثاني في منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية

وبعبارة أخرى في مانعية العلم الإجمالي من جريان الأصول العملية الترخيصية المؤمِّنة في بعض أطراف العلم الإجمالي ، فإنَّ ثبتت المانعية فيعني أنَّ العلم الإجمالي يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية ، وإن لم تثبت فلا مانع من إجراء الأصل المؤمِّن في بعض أطراف العلم الإجمالي.

والكلام عن المانعية تارة ثبوتاً أي عن إمكان الترخيص في بعض الأطراف ، وأخرى إثباتاً أي أنَّ أدلة الأصول العملية هل تشمل بعض أطراف العلم الإجمالي أو لا ، فالكلام في موضعين:

الأول في إمكان الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي أو عدم إمكانه ، ومرجعه الى ما تقدم من أنَّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية هل هو بنحو العلية التامة أم بنحو الإقتضاء بمعنى كونه معلقاً على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، فإنَّ ورد الترخيص الشرعي بارتكاب أحد الطرفين فلا تجب الموافقة القطعية لوجود المانع من تأثير العلم الإجمالي.

فإذا قلنا بالعلية التامة فلا يمكن جعل الترخيص في بعض الأطراف لأنه يستلزم التفكيك بين العلة التامة وبين المعلول وأما إذا قلنا بالإقتضاء فيمكن جعل الترخيص في بعض الأطراف ويكون بمثابة المانع الذي يمنع من تأثير العلم الإجمالي - وهو المقتضي - في المعلول وهو وجوب الموافقة القطعية.

ومن هنا يظهر أنَّ أصل منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أمرٌ مفروغ عنه وإنما الكلام في أنها بنحو العلية التامة أو بنحو الإقتضاء ، من دون فرق بين القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو إنكارها ، أما مع إنكارها فواضح لأنَّ إحتمال التكليف يكون مُنجِّزاً له بناءً على مسلك حق الطاعة فما ظنك بالعلم الإجمالي بالتكليف ، بل نقول بذلك حتى على مسلك قبح العقاب بلا بيان فأصل التنجيز مُسلَّم وثابت بما تقدم في بحث حرمة المخالفة القطعية من أنَّ التكليف منكشفٌ للمكلف والعلم الإجمالي بيان عليه ، فجامع التكليف تم عليه البيان ووصل الى المكلف فيقتضي منه الموافقة القطعية كما يقتضي حرمة المخالفة القطعية ، فأصل منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية لا ينبغي أن يقع فيه الكلام سواءً آمنا بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو أنكرناها ، وإنما الكلام ينصب على أنَّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية هل هو بنحو العلية التامة أأأأم بنحو الإقتضاء ، وهذا نفس ما نحن فيه أي البحث في إمكان الترخيص في بعض الأطراف فإنَّ مرجعه الى أنَّ تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية إن كان بنحو العلية التامة فلا يمكن الترخيص في بعض الأطراف وإن كان بنحو الإقتضاء فيمكن ذلك.

أقول إنَّ النزاع في إمكان جعل الترخيص أو عدمه وأنَّ المنجزية هل هي بنحو العلية التامة أو بنحو الإقتضاء إنما يجري بشرطين لابد من افتراضهما في المقام:

الشرط الأول الفراغ عن العلية التامة في المقام الأول - في حرمة المخالفة القطعية - وإلا لا معنى لهذا البحث ، لأنه على الإقتضاء يمكن جعل الترخيص في جميع الأطراف كما تقدم ، والمانع إثباتي فقط ، وإذا أمكن جعل الترخيص في كِلا الطرفين فلا معنى للبحث عن إمكان جعل الترخيص في أحد الطرفين.

الشرط الثاني هو أنَّ العلم الإجمالي يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية بنفسه ومباشرة ، أما إذا بنينا على مسلك آخر - يأتي الكلام عنه - وهو أنه ينجِّز وجوب الموافقة القطعية في طول تعارض الأصول في الأطراف وتساقطهما ، وهو يعني أنَّ الأصل يجري في هذا الطرف بلا مانع ولكن يعارضه جريان الأصل في الطرف الآخر ، فإن دليل الأصل واحد ولا يمكن أن يشمل كِلا الطرفين للزوم المخالفة القطعية كما تقدم في المقام الأول ، ولا مانع من أن يشمل أحد الطرفين لكن يعارضه شمول الدليل للطرف الآخر ، ولا موجب لإختصاص الدليل بأحد الطرفين بعد تساويهما بالنسبة الى دليل الأصل المؤمِّن ، فيتعارضان ويتساقطان ، وحينئذٍ يتنجَّز وجوب الموافقة القطعية ، فهذا التنجيز ليس لأجل العلم الإجمالي وإنما لبقاء الإحتمال في كل الطرف بلا مؤمِّن ، فوجوب الموافقة القطعية لم يتنجز بالعلم الإجمالي مباشرة بحسب هذا المسلك وإنما تنجّزها في طول تعارض الأصول وتساقطها وبقاء الإحتمال في كل طرف بلا مؤمِّن.

وإنما نشترط هذا الشرط لأنَّ معنى أنَّ العلم الإجمالي لا ينجز الموافقة القطعية بنفسه وإنما ينجزها في طول تعارض الأصول وتساقطها هو جواز الترخيص في بعض الأطراف ، فقد إفتُرض في هذا المسلك إمكان جريان الأصل في الأطراف وهو نفس المطلوب إثباته ، بخلاف ما إذا كان تنجيز العلم الإجمالي لوجوب المخالفة القطعية بنفسه ومباشرة فيمكن أن يقع البحث في أنه هل هو بنحو العلية التامة أم بنحو الإقتضاء.

إلتزم المحقق العراقي قده بالعلية التامة في المقام الثاني كما إلتزم بها في المقام الأول وذكره في مقام تقريب ذلك أمرين:

الأول: بعد أن إلتزمنا بالعلية في المقام الأول - حرمة المخالفة القطعية - فلابد من أن نلتزم بالعلية في المقام الثاني - وجوب الموافقة القطعية - إذ لا يعقل جعل الترخيص في بعض الأطراف كما لا يمكن جعله في جميع الأطراف ، لأنه في المقام الأول استلزم القطع بالمخالفة القطعية والوقوع في المعصية ، وفي المقام لا يترتب عليه إلا المخالفة الإحتمالية وهي ممنوعة أيضاً لإحتمال إنطباق ما هو المنجَّز على المكلف - أي الحرام الواقعي الواصل الى المكلف بالعلم الإجمالي - على الطرف الذي رُخِّصَ فيه ، وهذا الإحتمال يولد إحتمال العقوبة بارتكاب هذا الطرف ، والعقل يحكم بضرورة الإمتناع عن كل ما يُحتمل ترتب العقوبة عليه لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، وهو يعني عدم إمكان الترخيص في بعض الأطراف بإعتباره ترخيصاً في مُحتمل المعصية وهو غير ممكن بنظر العقل كالترخيص في مقطوع المعصية ، فلا فرق بين المقام الأول والثاني ففي كلٍ منهما نلتزم بإستحالة الترخيص ، في الأول في جميع الأطراف وفي الثاني في بعض الأطراف ، مع فرق بينهما ففي الأول هناك قطع بالمعصية بارتكاب الطرفين وهنا إحتمال المعصية بارتكاب أحد الطرفين لكن كل منهما محال بنظر العقل ، وإذا إستحال الترخيص في بعض الأطراف فتثبت العلية التامة.

ومن الواضح من هذا البيان أنه بمعزل عن إفتراض ورود الترخيص من قِبل الشارع ، وبمعزل عن أنَّ حكم العقل بقبح المعصية ووجوب طاعة المولى حكم تعليقي معلق على عدم ورود الترخيص من قِبله ، ومع الإلتفات إلى هذين الأمرين تنحل المشكلة إذ لا يوجد قبح في إرتكاب ما يحتمل فيه المخالفة مع ترخيص الشارع نفسه لأن حكم العقل معلق على عدم ورود الترخيص الشرعي فإذا ورد إرتفع موضوع الحكم العقلي ، وقد بيَّنا أن الأحكام الاحترامية معلقة على عدم ترخيص المولى الذي سيق الحكم إحتراماً له.

البيان الثاني: سواءً قلنا بسراية المنجزية من الجامع الى الواقع - والمقصود بالواقع ما هو الموجود من الحكم خارجاً – أو لم نقل بها فالعلم الإجمالي يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية على نحو يمتنع جعل الترخيص في بعض الأطراف ، أما على القول بالسراية فالتنجُّز يسري الى الطرف الذي هو خمر واقعاً وإن لم يكن معلوماً لدينا ولكنه محتمل في هذا الطرف وفي ذاك ، وهذا التنجُّز المحتمل في كل فرد هو الذي يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية ، وأما على القول بعدم السراية فالعلم الإجمالي أيضاً يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية على نحو العلية التامة لأنه يكفي تنجَّز الجامع في ذلك لأنه يعني تحرم مخالفته القطعية وتجب موافقته القطعية ، فعلى كِلا التقديرين لابد من الإلتزام بوجوب الموافقة القطعية.

فينتهي قده الى أنَّ العقل يأبى من الترخيص في بعض الأطراف في موارد العلم الجمالي وهو يعني العلية التامة.

وهذا البيان بتمام تفاصيله مبني على أنَّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية هو بنحو العلية التامة ، وقد تقدم جوابه ، وإذا بنينا على الإقتضاء فيعني أنّ المنجزية موقوفة على عدم الترخيص من قِبل الشارع فإذا ورد الترخيص إرتفع موضوع حكم العقل بمنجزية التكليف ، وإذا رخص في جميع الأطراف فلا يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية وإذا رخص في بعضها فلا يحكم بوجوب الموافقة القطعية ، فلا يبقى حكمٌ للعقل بقبح إرتكاب أحد الطرفين ولا يكون معصية للمولى.

وله قده بيان آخر للعلية التامة وهو أنَّ هناك ملازمة بين حكم العقل بالعلية التامة في المقام الأول وحكمه بها في المقام الثاني لأنّ الحكم العقلي بالمنجزية واحد ولا يتعدد بتعدد الموارد ، وحيث أثبتنا في المقام الأول أنَّ هذا الحكم العقلي تنجيزي فيثبت في المقام الثاني كذلك ، وهو يعني إستحالة جعل الترخيص في بعض الأطراف وأن التنجيز بنحو العلية التامة.

وعلى المختار وبحسب هذه الملازمة التي ذكرها يثبت أنّ المنجزية هنا أيضاً بنحو الإقتضاء كما في المقام الأول .