الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/حرمة المخالفة القطعية/البحث الإثباتي/ البيان الثاني والثالث

كان الكلام في المانع الإثباتي من شمول إطلاق أدلة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي بعد الفراغ عن عدم وجود مانع ثبوتي ، وقلنا أنَّ هذا المانع قد يُبين بوجوه ، الأول ما تقدم نقله عن الشيخ الأنصاري من دعوى أنَّ شمول أدلة الأصول المؤمنة لأطراف العلم الإجمالي يلزم منها التهافت بين صدر الروايات وذيلها ، وتقدم جوابان عن المانع أحدهما لصاحب الكفاية الآخر للسيد الخوئي ، وقد تبين عدم تماميتهما لرد البيان الأول.

البيان الثاني ما يقال من أنَّ الفهم العرفي والإرتكازات العقلائية لا تُساعد على جعل الترخيص الظاهري في تمام أطراف العلم الإجمالي ورفع اليد عن الغرض اللزومي الواصل الى المكلف بمجرد تردده بين طرفين ، بل يُدعى أنه في جعل الترخيص نوع مناقضة وإن لم يكن هناك مانع ثبوتي أو تناقض واقعي إلا أنَّ الفهم العرفي يأبى ذلك ، فإذا تم هذا الفهم العرفي فإنه يكون قرينة لُبيّة متصلة بأدلة الأصول العملية وتمنع من إطلاقها وشمولها لأطراف العلم الإجمالي.

البيان الثالث وهو مناقضة الشارع لنفسه ، بإعتبار أنَّ الشارع أخبرنا بعدم العقاب عند عدم البيان وأخبرنا بثبوت العقاب عند وجود البيان وهو يُستفاد من عدة أدلة منها قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ الإسراء : 15 فإنَّ بعث الرسول كناية عن البيان ، فالآية تتضمن عقداً سلبياً وهو إنتفاء العذاب من دون بيان وعقداً إيجابياً وهو ثبوت العذاب عند وجود البيان ، فإذا ضممنا له أنَّ العلم الإجمالي بيان تام للتكليف كما تقدم ، فينتج ترتب العقاب على العلم الإجمالي ، فإذا جعل الشارع الترخيص في أطراف العلم الإجمالي فهذه مناقضة لنفسه ، فنمنع من شمول أدلة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي للزوم مناقضة الشارع نفسه.

وإعترض صاحب هذا البيان على نفسه بأنه لماذا لا تكون أدلة الأصول العملية مُخصِّصة لحكم الشارع بثبوت العقاب عند البيان بتقريب: أنَّ البيان يشمل العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ويكون إطلاق أدلة الأصول العملية الشامل لأطراف العلم الإجمالي مخصصاً لحكم الشارع بالعقاب مع البيان وموجباً لتخصيصه بالبيان التفصيلي للتكليف وإخراج البيان الإجمالي ، فيترتب إستحقاق العقاب على البيان التفصيلي دون البيان الإجمالي ، فلا إشكال حينئذٍ في جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ولا يلزم منه مناقضة الشارع لنفسه وإنما تلزم المناقضة إذا رتب العقاب على مطلق البيان.

وأجاب عنه بأنَّ النسبة بين الدليلين ليست هي نسبة العموم والخصوص المطلق حتى يُصار الى التخصيص وإنما هي نسبة العموم والخصوص من وجه ، فلا مجال للتخصيص ، بل يتعارضان في مادة الإجتماع ويتساقطان مع عدم المرجح ، وبيان ذلك:

إنَّ الدليل الأول هو قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا﴾ بلحاظ العقد الإيجابي في الآية وهو ثبوت العقاب عند البيان ، والدليل الثاني هو أدلة الأصول العملية المؤمنة التي تقتضي الشمول لأطراف العلم الإجمالي ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه لأنَّ الدليل الأول في عقده الإيجابي مطلق وشامل للبيان التفصيلي والبيان الإجمالي ، وأدلة الأصول العملية مطلقة وشاملة للشبهات البدوية وموارد العلم الإجمالي ، فمادة الإجتماع هي العلم الإجمالي ، ومورد إفتراق الدليل الأول هو العلم التفصيلي ومورد إفتراق أدلة الأصول العملية هي الشبهات البدوية ، ويجتمعان في موارد العلم الإجمالي ومقتضى الآية أنه بيان فيثبت العقاب معه ، ومقتضى شمول أدلة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي هو نفي العقاب ، فيتعارضان في مادة الإجتماع ومع عدم المرجح يتساقطان ولا يتقدم أحدهما على الآخر بالأخصية.

وفي مقام التعليق على كل ما ذُكر في البيان الثالث نقول:

لا يصح فصل الآية عن أدلة الأصول العملية المؤمّنة ثم نوقع التعارض بينهما ، ثم نبحث أنَّ النسبة بينهما هل هي العموم المطلق أو من وجه ، وذلك لأنَّ الآية الشريفة هي أحد أدلة الأصول العملية المؤمّنة ومفاد الجميع هو البراءة.

وبعبارة أخرى: الآية الشريفة فيها عقد إيجابي وهو ترتب العذاب عند تمامية البيان وعقد سلبي هو نفي العذاب عند عدم البيان ، وفي عقدها السلبي تشترك تماماً مع أدلة الأصول العملية المؤمِّنة لأنَّ لسان هذه الأدلة هو نفي العقاب عند عدم البيان فهي تشترك معها ولا تقع قِبالها ، فليس من الصحيح أن نوقع المعارضة بين الآية الشريفة وبين أدلة الأصول العملية كما ذُكر.

وأما دعوى إنَّ جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي يلزم منه مناقضة الشارع لنفسه فقد تكفل البحث السابق بدفعها حيث قلنا أن النكتة في المقام هي أنَّ منجزية العلم الإجمالي التي يحكم بها العقل هل هي فعلية أم معلقة على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، فإن كانت فعلية بمعنى حكم العقل بلزوم الطاعة حتى مع ترخيص الشارع بمخالفة تكليفه فلا إشكال في أنَّ جعل الترخيص في الأطراف ينافيها وتلزم منه المحاذير المتقدمة ، وإن كانت المنجزية تعليقية - كما هو الصحيح - فلا ترد جميع هذه المحاذير ، ولا معنى للقول إنَّ إرتكاب الأطراف معصية والترخيص فيها قبيح بعد صدور الترخيص من الشارع نفسه!

كما أنّ الشارع لا يُناقض نفس بجعل الترخيص في الأطراف لأنَّ المناقضة تصدق إذا كان الحكم بالمنجزية حكماً فعلياً غير معلق على شيء وقد عرفتَ أنه تعليقي ، ومع ورود الترخيص الشرعي يرتفع موضوع الحكم العقلي فلا يكون ورود الترخيص منافياً لشيء لا لحكم العقل ولا للحكم الشرعي ، فهذا البيان لا يكون تاماً للمانع الإثباتي.

اللهم إلا أن يُفسر هذا البيان بما تقدم في البيان الثاني من أنَّ جعل الترخيص في جميع الأطراف ينافي حكم الشارع بثبوت العقاب مع البيان بحسب الفهم العرفي والإرتكازات العقلائية ، وهو صحيح و وجيه ، وتكون قرينة لُبيّة مانعة من شمول إطلاق أدلة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي ، وأما من دونه فلا يصح هذا البيان.

ومن هنا يتبين أنَّ المانع الإثباتي له وجهان الأول ما ذكره الشيخ الأنصاري وهو تام في الجملة ، والثاني ما تقدم وهو تام أيضاً ، ولعل التهافت الذي ذكره الشيخ الأنصاري يرجع الى البيان الثاني.

هذا تمام الكلام في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية ، وهو المقام الأول ، ونتيجته هي:

إنَّ العلم يُنجِّز حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال لكنه تنجيز معلّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع الذي يُنتج أنه لا مانع عقلاً من ورود الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ، لكن المانع إثباتي كما تقدم ، فنلتزم مع المشهور في أنَّ العلم الإجمالي مُنجِّز ولا تجري الأصول العملية في جميع الأطراف والذي به تتحقق المخالفة القطعية.

المقام الثاني منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية

بعد الفراغ من أنَّ العلم الإجمالي يُنجِّز حرمة المخالفة القطعية على المكلف ويمنعه من إرتكاب كِلا الإناءين في الشبهة التحريمية في المثال المتقدم ، لكن هل يُلزمه بترك كِلا الإناءين التي تُعبر عن الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال أو لا يلزمه ؟

وبتعبير آخر هل يصح جعل الترخيص في أحد الطرفين ، فلا تتحقق الموافقة القطعية أو لا يصح ذلك لأنّ العلم الإجمالي يُنجِّز وجوب الموافقة القطعية وهي لا تتحقق إلا باجتناب كِلا الطرفين ؟

والكلام هنا يقع أيضاً في أنَّ العلم الإجمالي هل يمنع من جريان الأصول المؤمّنة في أحد أطرافه أو لا يمنع من ذلك ، والكلام عن هذه المانعية يقع في مقامين :

الأول في مقام الثبوت ، فهل يمكن جعل الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي أو لا يمكن؟

الثاني في مقام الإثبات ، وهل هناك مانع من جريان الأصول في بعض أطراف العلم الإجمالي؟

أما المقام الأول : هل يمكن أن تشمل أدلة الأصول العملية بعض أطراف العلم الإجمالي أو لا يمكن ذلك ؟

وهنا تأتي مسألة تأثير العلم الإجمالي في وجوب الموافقة القطعية فهل هو بنحو العلية التامة أم بنحو الإقتضاء ؟

فعلى القول بالعلية التامة لا يمكن جعل الترخيص في بعض الأطراف للزوم التفكيك بين العلة التامة وبين معلولها ، وعلى القول بالإقتضاء فلا مانع من جعل الترخيص في بعض الإطراف إذا إحتف هذا المقتضي بالمانع ولا يكون مؤثراً أثره.