الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/04/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/حرمة المخالفة القطعية/التحقيق في العلية والإقتضاء

إنتهينا الى التوفيق بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيص المجعول في الأطراف ورفع التنافي البدوي بينهما بعد الفراغ عن إمكان ورود الترخيص ثبوتاً ، وهذا التنافي إما أن يدعى بلحاظ عالم المبادئ أو بلحاظ عالم الجعل والإعتبار أو بلحاظ عالم الإمتثال.

أما التنافي بلحاظ عالم المبادئ فيُصور إما على أساس التضاد بين مبدأ الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال وبين مبدأ الترخيص المجعول في الأطراف ، وإما على اساس نقض الغرض والذي يرجع الى عالم المبادئ أيضاً ، وذلك بإعتبار أنَّ المولى ينقضه غرضه من جعل الحكم الإلزامي بجعل الترخيص في الأطراف.

ويمكن دفعهما بما ذكره السيد الشهيد قده في تفسير حقيقة الأحكام الظاهرية وأنها علاج لحالة التزاحم بين الأحكام الواقعية في مقام الحفظ وتقديم الأهم منها ، فالحكم الظاهري يشير الى أهمية أحد الحكمين الواقعيين المتزاحمين في مقام حفظهما ،

وتوضيح ذلك:

في كل شبهة يوجد إحتمالان ففي أكل لحم الأرنب مثلاً يُحتمل فيه الحرمة الواقعية أو الإباحة الواقعية ولكل منهما ملاك ، فعندما تتزاحم هذه المبادئ الواقعية في مقام الحفظ يلاحظ المولى ما هو الأهم منها بنظره فيجعل الحكم الظاهري لحفظه ، وما يُحفظ به أحد المبدأين غير ما يُحفظ به المبدأ الآخر فمبدأ الحكم الإلزامي الواقعي يُحافظ عليه بجعل الإحتياط كحكم ظاهري في موارد الشبهة فيقال للمكلف إذا شككتَ في حرمة لحم الأرنب فاجتنبه إحتياطاً وبذلك يُدرك هذا الملاك حتماً ، وأما مبدأ الإباحة الواقعية فيُحفظ بجعل البراءة كحكم ظاهري لأنَّ مبدأ الإباحة هو إطلاق العنان وعدم تقييد المكلف فيقال (رُفع عن إمتي ما لا يعلمون) فما يَشك المكلف فيه يُنفى بأصالة البراءة ويُطلَق له العنان وبه يُحافظ على مبدأ الإباحة الواقعية.

والمقصود بالتزاحم الحفظي هو أنَّ بين المبدأين للحكمين الواقعيين تزاحم في مقام الحفظ وما يُحفظ به أحدهما غير ما يُحفظ به الآخر فيرجح الشارع ما هو الأهم من الملاكين بنظره فإذا كان ملاك الحكم الإلزامي هو الأهم فيجعل الإحتياط كحكم ظاهري وإذا كان ملاك الحكم الترخيصي هو الأهم فيجعل البراءة كذلك ، وهذا من شؤون المشرع كما هو واضح ، وهو يعلم أنَّ جعل الإحتياط سيُفوّت على المكلف ملاك الحكم الترخيصي ، ففي المثال سوف يُلزم المكلف بترك كِلا الإنائين والحال أنّ أحدهما مباح ولكن ذلك لأجل رعاية الملاك الأهم منهما ، وكذا لو كان ملاك الحكم الترخيصي هو الأهم فيجعل البراءة كحكم ظاهري وهو وإن كان يُفوّت على المكلف ملاك الحكم الإلزامي لأن أحد الإنائين حرام ولكن لا بأس به لأنه لأجل الحفاظ على الملاك الأهم بنظره ، فالغرض من الحكم الظاهري هو الحفاظ على ملاكات الأحكام الواقعية.

والسيد الشهيد قده يذكر هذه النظرية في باب الأصول العملية وفي باب الأمارات أيضاً لأنَّ الجميع أحكام ظاهرية غاية الأمر أنه يُفرِّق بينهما بأنَّ التقديم بالأهمية وجعل الحكم الظاهري على وفقها تارة يُراعى فيها نوع الحكم المحتمل فقط وأخرى يُراعى فيها قوة الإحتمال ، فإن كانت الأهمية لأجل نوع الحكم المحتمل فهي الأصول العملية ، فالإحتياط يحفظ الإحكام الإلزامية فلاحَظ الشارع نوع الحكم المحتمل وأنَّ الحكم الإلزامي أهم من الحكم الترخيصي ، والبراءة تحفظ الحكم الترخيصي وتعني أنه أهم من الحكم الإلزامي ، فالملحوظ هنا هو نوع الحكم المحتمل.

وإن كانت الأهمية لأجل قوة الإحتمال فهذا يكون في باب الأمارات ، والحكم الظاهري المجعول فيها هو الحُجيّة ، فالحُجية المجعولة لخبر الثقة وغيره في ظرف الشك هي الحكم الظاهري ، وخبر الثقة لا يورث العلم عادة فيبقى الشك في مطابقة مضمون الخبر للواقع فالشارع يجعل الحجية لخبر الثقة في ظرف الشك فيكون حكماً ظاهرياً روعي فيه قوة الإحتمال لأنَّ إحتمال المطابقة في خبر الثقة أقوى من إحتمال عدم المطابقة ، فالشارع رجح إحتمال المطابقة لقوته ولا يلاحظ هنا نوع الحكم المحتمل ولذا يَجعل الحجية لخبر الثقة سواءً أخبر عن حكم إلزامي أو أخبر عن حكم ترخيصي أو أخبر عن البطلان أو عن أي شيء آخر ، فنوع الحكم المحتمل غير ملحوظ إطلاقاً وإنما الملحوظ هو قوة الإحتمال فإنَّ إحتمال المطابقة في الأمارات أكبر من إحتمال عدم المطابقة فيها.

هذه كلها أحكام ظاهرية تُجعل في مقام الحفاظ على الأحكام الواقعية عندما يقع التزاحم فيما بينها للإشارة الى ما هو الأهم منها ، هذه خلاصة النظرية وتأتي في محلها تفصيلاً.

وبناءً عليه يمكن دفع ما تقدم من الإشكالين المستدل بها على دعوى التضاد بلحاظ عالم المبادئ بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيص الظاهري المجعول في الطرفين ، فلا تضاد بين المبدأين لأنَّ الترخيص الظاهري ليس له مبادئ حتى تكون مضادة ومنافية لمبادئ الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، فمبادئ الحكم الظاهري هي نفس مبادئ الأحكام الواقعية بحسب هذه النظرية ، فتندفع الشبهة لأنها قائمة على أنّ للحكم الظاهري مبادئ مستقلة عن مبادئ الأحكام الواقعية ، ومع إنكار وجود مبادئ خاصة به فلا معنى لوقوع التضاد بينه وبين مبدأ الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال.

وكذا لا ترد شبهة نقض الغرض لأنَّ الحكم الظاهري جُعل للحفاظ على الغرض الواقعي الأهم عندما يقع التزاحم في مقام الحفظ بينها ، فإذا رأى الشارع أن َّالملاك الإلزامي أهم بنظره فيجعل الإحتياط للحفاظ عليه ، وإذا رأى ملاك الإباحة الواقعية أهم فيجعل الإباحة الظاهرية وبذلك يُحافظ على غرضه الأهم بعد الموازنة في مقام الجعل ، لا أنه ينقضه كما يُدعى.

هذا هو الجواب عن الشبهتين اللّتين إستُدل بهما على التضاد بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيص المجعول في الأطراف بلحاظ عالم المبادئ.

أما بلحاظ عالم الجعل والإعتبار ، فالإعتبار هو سهل المؤونة إذا جُرد عن المبادئ وعن مقام الإمتثال فلا يقع فيه التضاد بهذا اللحاظ.

وأما بلحاظ عالم الإمتثال فالمدعى أنَّ هناك تضاد بين الحكم الإلزامي الواقعي وبين الترخيص في الطرفين في مقام الإمتثال ،أما الشبهات البدوية فلا تضاد فيها بين الحكم الواقعي على تقدير وجوده وبين الترخيص الظاهري ، لأنَّ الحكم الواقعي غير واصل الى المكلف ، فلا يقتضي الإمتثال وإن كان ثابتاً في الواقع ، فعدم المنافاة في مقام الإمتثال في الشبهات البدوية واضح ، لكنه في محل الكلام ليس واضحاً لأنَّ الحكم الواقعي وصل الى المكلف بالعلم الإجمالي فيقتضي منه التحرك ، وهو يُنافي الترخيص في كِلا الطرفين في عالم الإمتثال والتنجيز ، فالحرمة الواقعية المعلومة بالإجمال تقتضي الإمتناع عن الحرام الواقعي المردد بين الطرفين بينما الترخيص لا يمنع من إرتكاب كِلا الطرفين ، فالتنافي واقع.

وجوابه بما تقدم من أنَّ الحكم العقلي بلزوم إطاعة المولى وقبح معصيته حكمٌ مُعلَّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، وكل الإحكام الاحترامية الناشئة من إحترام الطرف الآخر تكون أحكاماً تعليقية حتى في موارد العلم التفصيلي ، فيرتفع التنافي بورود الترخيص من قِبل الشارع لإرتفاع موضوع الحكم العقلي ، فلا يكون للحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال بعد ورود الترخيص الشرعي في الطرفين إقتضاء الإمتثال حتى يُقال بأنه يُنافي جعل الترخيص الطرفين ، وإنما يقتضي الإمتثال إذا لم يرد الترخيص الشرعي في المخالفة.