43/04/01
الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/حرمة المخالفة القطعية/التحقيق في العلية والإقتضاء
كان الكلام في ما ذهب إليه صاحب الكفاية من أنّ منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية هي على نحو الإقتضاء في مقابل ما نُسب الى المشهور من أنها على نحو العلية التامة ، وفي مقام الموازنة بين هذين الرأيين نقول:
إنّ ما إستدل به المشهور على العلية التامة الذي يعني إمتناع جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي هو أنه مخالفة قطعية لتكليف المولى وهي معصية قبيحة بحكم العقل ولا يمكن ورود الترخيص فيها لأنه ترخيص في القبيح وهو محال.
وهذا الدليل مبني على دعوى أنَّ منجزية العلم الإجمالي التي يحكم بها العقل هي منجزية فعلية غير معلقة على شيء ، فيقال إنَّ العقل يحكم بأنَّ العلم الإجمالي ينجز حرمة المخالفة القطعية منجزية فعلية ، فالترخيص في أطراف العلم الإجمالي يكون ترخيصاً في المعصية القبيحة عقلاً ، ولا يعقل أن يرخص الشارع في القبيح عقلاً ، وأما إذا قلنا بالإقتضاء فلا يتم هذا الكلام لأنّ العقل يحكم بالمنجزية ولكنها موقوفة على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع فلا يقال إنّ الترخيص من قبله يكون ترخيصاً في المعصية القبيحة عقلاً ، بل ليست معصية أصلاً لأنّ العقل يحكم بالمنجزية على نحو الإقتضاء ويقول أيها العالم بالإجمال تحرم عليك المخالفة بشرط أن لا يرد ترخيص بها من قِبل الشارع ، فإذا رود الترخيص فلا يحكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وإنما يحكم بها عند عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، فلا يصح القول أنَّ ورود الترخيص بالمخالفة محال ويصطدم مع الحكم العقلي بالقبح.
وبعبارة أخرى إنّ ورود الترخيص من قِبل الشارع ليس ترخيصاً في أمر قبيح عقلاً حتى يكون محالاً لأنَّ العقل حَكم بالمنجزية المعلقة على عدم ورود الترخيص من قبل الشارع ، فكيف يكون ترخيص الشارع محالاً وترخيصاً في المخالفة القبيحة.
وبعبارة أوضح إنَّ العقل لا يرى أنّ إرتكاب الطرفين بعد ورود الترخيص معصية للشارع ، وإنما تكون معصية إذا لم يرد الترخيص من قِبله ، فكأن دليل المشهور مبني على أنَّ حكم العقل بالمنجزية هو حكم على نحو العلية التامة ويستحيل تخلف حرمة المخالفة القطعية عن العلم الإجمالي ، وأما على مسلك الإقتضاء فلا يكون هذا تاماً.
ومن هنا ينبغي أن نبحث في أنَّ المنجزية التي يحكم بها العقل للعلم الإجمالي هل هي على نحو العلية التامة أم على نحو الإقتضاء ، فعلى القول بالأول يتم كلام المشهور ويستحيل جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي وعلى القول بالثاني فلا يتم ذلك.
والتحقيق: إنّ حكم العقل بقبح مخالفة المولى وقبح معصيته هو حكم فيه مراعاة لشأن المولى ومولويته وأنَّ العبد ينبغي أن يؤدي مراسم العبودية للمولى فيحكم بلزوم طاعته وقبح معصيته ، فهو حكم إحترامي لرعاية شأن المولى ، ومن الواضح أنَّ مثل هذا الحكم يرتفع عندما يأذن المولى نفسه في المخالفة ولا معنى لإصرار العقل على قبح المخالفة مع ورود الإذن بها مع أنَّ أساس حكم العقل بها هو لرعاية شأن المولى فإذا أجاز المولى للعبد أن يرتكب المخالفة ورخص فيها فلا يبقى العقل مصراً على قبحها ولا تكون معصية للمولى أساساً وإنما تكون كذلك حيث لا يأذن المولى ، وهذا يعني أنّ حكم العقل بالمنجزية حكم تعليقي ، فلا يكون جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ترخيصاً في المعصية ، فإذا ورد الترخيص إرتفع موضوع الحكم العقلي ، وهو يعني الإقتضاء.
بناءً على هذا لا مانع من جعل الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ولا يكون ذلك ترخيصاً في القبيح لأنّ المخالفة المرخص فيها من قِبل الشارع ليست قبيحة.
نعم يبقى البحث في إمكان الترخيص الشرعي في أطراف العلم الإجمالي ، وهذا غير حكم العقل بالمنجزية المعلقة على عدم ورود الترخيص ، والبحث في محل الكلام - في إمكان جعل الترخيص الشرعي - بحث ثبوتي أيضاً ، ففي في الشبهات البدوية يمكن جعل الترخيص الظاهري بلا إشكال وفي العلم التفصيلي لا يمكن ذلك لعدم الشك فيه ، وأما في العلم الإجمالي فهل يمكن ذلك لمكان الشك في الأطراف أم لا يمكن لمكان العلم بالجامع ، وهذا بحث ثبوتي عن الإمكان والإستحالة ، وقد أثبت صاحب الكفاية الإمكان بما تقدم سابقاً من أنَّ مرتبة الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي محفوظة فإنَّ الشك موجود في كل طرف فيمكن جعل الترخيص لتحقق موضوعه ، أما البحث الإثباتي وهو بحث إستظهاري في أدلة الأصول المؤمِّنة وشمولها لأطراف العلم الإجمالي أو عدمه فيأتي لاحقاً.
فثبت الى هنا:
أولاً: أن حكم العقل بالتنجيز معلّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع.
ثانياً: أنّ الحكم الظاهري يمكن جعله في أطراف العلم الإجمالي لإنحفاظ مرتبته في كل طرف من أطرافه.
ولكن ما يقال من أنَّ مرتبة الحكم الظاهري في العلم التفصيلي ليست محفوظة لا يعني بالضرورة أنَّ الحكم العقلي بحرمة المخالفة هو حكم تنجزي ، بل من الممكن أن نقول أنَّ الحكم العقلي بقبح مخالفة المولى حكم تعلقي حتى في موارد العلم التفصيلي ، غاية الأمر أنه في موارد العلم التفصيلي عدم ورود الترخيص الشرعي محرز دائماً لما ذكره صاحب الكفاية من أنّ مرتبة الحكم الظاهري ليست محفوظة في موارد العلم التفصيلي فلا يمكن جعل الحكم الظاهري فيها ، ولكنه لا يعني تحول الحكم العقلي فيها الى حكم تنجيزي بحيث نفصِّل بين موارد العلم التفصيلي فيحكم العقل فيها بالمنجزية حكماً تنجيزياً وبين موارد العلم الإجمالي فيحكم العقل فيها بالمنجزية حكماً تعليقياً، بل حكم العقل بالمنجزية حكم تعليقي دائماً معلّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع حتى في موارد العلم التفصيلي ، بل حتى في الإحتمال في الشبهات البدوية بناءً على مسلك حق الطاعة ومنجزية الإحتمال حكم العقل فيها تعليقي أيضاً ، فالحكم العقلي بوجوب طاعة المولى يرعى فيه شأن المولى دائماً لأنه الخالق ولأنه المنعم ولأنك عبدٌ تجبُ عليك إطاعته وتقبح معصيته ، ولكن هذا الحكم يكون معلقاً على أن لا يأذن نفس المولى في المخالفة.
نعم يبقى الكلام في إمكان رفع التنافي بين الحكم الإلزامي الواقعي المعلوم بالإجمال - الجامع - وبين الترخيص الظاهري المجعول في الأطراف بعد القول بإمكان جعل الترخيص بناءً على الإقتضاء ، فالحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال يقول يحرم عليك إرتكاب الإناء المحرم المردد بين هذين الإنائين والترخيص في الأطراف يقول إرتكب كُلاً منهما ، فلابد من التعرض لهذه الشبهة ورفع التنافي البدوي بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين جعل الترخيص الظاهري في الأطراف ، وبهذا الصدد نقول:
إنّ التنافي بشكل عام بين الأحكام الشرعية إما أن يكون في عالم المبادئ وإما أن يكون في عالم الجعل والإعتبار أو يكون في مقام الإمتثال.
أما التنافي في عالم المبادئ فبأن يكون مبدأ الوجوب المصلحة الملزمة ومبدأ الحرمة المفسدة الملزمة وهما متنافيان ولا يجتمعان في شيء واحد كما هو واضح.
وإما التنافي في عالم الجعل والإعتبار فلأنّ جعل الوجوب ينافي جعل الحرمة وينافي جعل الإباحة.
وإما التنافي بلحاظ عالم الإمتثال فلأن الوجوب يُحرك ويدفع المكلف نحو الفعل والتحريم يزجره ويمنعه من إرتكاب الفعل.
ونريد أن نقول لا تنافي بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيص الظاهري المجعول في الأطراف لا في عالم المبادئ ولا في عالم الجعل والإعتبار ولا في مقام الإمتثال.
أما في عالم المبادئ فالتنافي يمكن أن يُبين بأحد بيانين:
إما بإعتبار التضاد بين مبادئ الحكم الواقعي الإلزامي المعلوم بالإجمال وبين مبادئ الترخيص المجعول في الأطراف ، فإنّ مبدأ الإلزام هو المصلحة الملزمة ومبدأ الترخيص - أي الإباحة الإقتضائية - هو مصلحة إطلاق العنان ، وبين المبدأين تضاد فالأول يُلزم المكلف بالفعل والثاني يُطلق له العنان.
وإما بإعتبار نقض الغرض فإن الشارع جعل حرمة شرب الخمر لتحقيق غرضٍ وهو عدم تحقق الشرب ، فإذا رخّصَ في إرتكاب كِلا الطرفين فهذا نقض للغرض من وراء تشريع الحكم الإلزامي المعلوم بالإجمال.
فمن هنا يُقال يحصل التنافي بلحاظ عالم المبادئ.
وهذا الأمران - التضاد ونقض الغرض – يمكن الجواب عنهما بجواب واحد وهو تفسير الحكم الظاهري بما ذكره السيد الشهيد قده ، حيث ذكر أنّ الأحكام الظاهرية أحكام جُعلت لعلاج حالة التزاحم الحفظي بين الأحكام الواقعية ، ففي محل الكلام نحتمل الحرمة في كل طرف ونحتمل الإباحة والترخيص أيضاً ، وما تحفظ به الحرمة الواقعية المحتملة في مقام الجعل غير ما يحفظ به الترخيص في المقام الجعل عند وقوع التزاحم بينهما ، فملاك الحرمة يحفظ بإلزام المكلف بترك الطرف المشكوك أي بجعل الإحتياط كحكم ظاهري في أطراف العلم الإجمالي ، وملاك الترخيص - إطلاق العنان - يُحفظ بإباحة إرتكاب الطرف المشكوك أي بجعل الإباحة كحكم ظاهري في أطراف العلم الإجمالي.