43/03/30
الموضوع : القطع/ العلم الإجمالي/ حرمة المخالفة القطعية - إعتراض المحقق النائيني على المحقق الخراساني وجوابه
كان الكلام في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية حيث قلنا أنهم إتفقوا على أصل المنجزية واختلفوا في أنها هل هي بنحو العلية التامة أم بنحو الإقتضاء ، المشهور ذهب الى الأول والمحقق الخراساني ذهب الى الثاني ، وذكرنا ما إستدل به وخلاصته:
أنَّ الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال غير منكشف للمكلف إنكشافاً تاماً ، ولأنه كذلك لا يكون تام الفعلية من جميع الجهات ، وحيث أنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في موارد العلم الإجمالي نتيجة لعدم إنكشافه إنكشافاً تاماً فكل طرف يُشك في ثبوت الحكم الواقعي فيه فلا مانع من أن يجتمع مثل هذا الحكم الواقعي مع الترخيص الظاهري في كِلا الطرفين ، والتنافي بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري - وبين الأحكام بشكل عام - إنما يكون إذا كان كُلّاً منهما فعلياً من جميع الجهات ، وأما إذا كان أحدهما غير منكشف إنكشافاً تاماً فلا يكون فعلياً من جميع الجهات فلا مانع من أن يجتمع مع حكم آخر فعلي من جميع الجهات وهو في المقام الحكم الترخيصي الظاهري في الأطراف لأنه معلوم ومنكشف إنكشافاً تاماً.
ومن هنا يظهر أنَّ إستحالة جعل الحكم الظاهري في كِلا الطرفين التي يدعيها المشهور مرجعها الى مسألة الجمع بين الأحكام الواقعية والأحكام الظاهرية فالمشهور كأنه يرى عدم إمكان الجمع في محل الكلام وإن كان يمكن الجمع في الشبهات البدوية لأن الحكم الواقعي فيها غير منكشف أصلاً ، فعلى تقدير ثبوته في الواقع مع عدم وصوله الى المكلف لا مانع من اجتماعه مع الحكم الظاهري ، لكن الجمع بينهما في محل الكلام غير ممكن بحسب المشهور ، وذلك لعدم الشك في الحكم الواقعي في بل هناك علم بالحكم الإلزامي وهو يعني وصوله الى المكلف وإن كان مردداً بين الطرفين ، فمع وصوله يستحيل جعل الحكم الظاهري المخالف له ، فالجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي في موارد العلم الإجمالي إذا كانت الشبهات محصورة ممتنع.
والمحقق الخراساني يقول إنَّ العلم الإجمالي يختلف عن العلم التفصيلي في أنَّ الحكم الواقعي يبقى مشكوكاً في كل طرف ، فيوجد في كل طرف شكٌ في الحكم الواقعي فلا يكون منكشفاً إنكشافاً تاماً فتبقى مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ولا مانع من جعل الترخيص الظاهري في كِلا الطرفين وإن أدى الى المخالفة القطعية.
ونكتة البحث هي ما تقدمت الإشارة إليه وهي أنَّ حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي هل هو حكم فعلي تنجيزي غير معلق على شيء أم هو حكم معلقٌ على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ؟
المشهور يقول بالأول - المنجزية الفعلية - فيكون العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية ومن ثَمّ إستحالة جعل الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي.
والمحقق الخراساني يرى الثاني - أي المنجزية المعلقة على عدم ورود الترخيص - فإذا رخص الشارع في المخالفة فلا معنى لحكم العقل بالمنجزية ، وهذا يؤدي الى القول بالإقتضاء فإذا إقترن بعدم المانع وهو عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع فيثبت التنجيز وتثبت حرمة المخالفة القطعية ، وأما إذا ورد الترخيص ووجِد المانع فيرتفع حكم العقل بالمنجزية ، وعلى هذا الأساس آمَنَ بإمكان ورود الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ، هذا هو رأي صاحب الكفاية ورأي المشهور في أصل المسألة.
وإعترض المحقق النائيني على صاحب الكفاية فيما ذهب إليه من الإقتضاء بأنَّ ما يُفهم من كلامه هو أنَّ العلم يكون دخيلاً في فعلية الحكم الواقعي ، فلا يكون الحكم فعلياً إذا لم يُعلم به ، ولذا قال أنَّ الحكم المعلوم بالإجمال حيث إقترن بالشك فلا يكون منكشفاً إنكشافاً تاماً فلا يكون فعلياً ، وهذا يعني أنَّ الأحكام الواقعية مقيدة بالعلم التفصيلي بها ولذا لا تكون فعلية في موارد العلم الإجمالي.
وبعد أن فسَّر المحقق النائيني كلام المحقق الخراساني بهذا التفسير أورد عليه:
أولاً: أنّ هذا على خلاف ما دلَّ على إشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، ومع أنَّ الأخبار متواترة عليه كما قال الشيخ الأنصاري.
ثانياً: أنّه يرجع الى أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم وهو محال كما تقدم.
هذا كله إذا فسَّرنا كلامه بأنَّ الأحكام الواقعية مقيدة بالعلم التفصيلي بها ، فلا حكم في الواقع مع عدم العلم التفصيلي به ، فلا حكم في محل الكلام فضلاً عن الشبهات البدوية.
وأما إذا فسَّرنا كلامه بصحة جعل الحكم الظاهري في صورة الجهل مع بقاء إشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل ، ومن دون تقييد الحكم بالعلم به ، وإنما يصح جعل الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي كما يصح جعله في موارد الشبهة البدوية ، نعم فعلية الأحكام الواقعية تختص بصورة العلم بها ، وفرقٌ بين القول بأنَّ أصل الحكم الواقعي يختص بالعالم ولا يشمل الجاهل فترد عليه الإشكالات السابقة وبين القول بأنَّ الحكم الواقعي يشمل كُلاً منهما لكنه لا يصل الى مرحلة الفعلية والمحركية والداعوية إلا عند العلم به ، وهنا يختلف صاحب الكفاية مع المشهور ويقول لا يوجد علم بالحكم في موارد العلم الإجمالي فلا يكون الحكم الواقعي فعلياً ولا يكون محركاً ، وعلى هذا الأساس قال إنّ الحكم الواقعي ليس تام الفعلية من جميع الجهات فلا مانع من اجتماعه مع الترخيص الظاهري الذي هو تام الفعلية من جميع الجهات.
وأما بحسب المشهور فيوجد علم بالحكم - أي بالجامع - ويصح للعالم بالإجمال أن يقول أنا أعلم تفصيلاً بحرمة شرب أحد الإنائين ، فهذه الحرمة واصلة الى المكلف ، فكما منع العلم التفصيلي بالحكم من جريان الحكم الظاهري فكذلك في العلم الإجمالي لا تكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة لأنّ المكلف أصبح عالماً بحرمة أحد الإنائين وهذا كاف في تنجيز هذه الحرمة.
فإن كان مقصوده الأول فيرد عليه ما تقدم ، وإن كان مقصوده الثاني فيلزم منه:
أولاً: التناقض ، لأنَّ الحرمة ثابتة قطعاً في أحدهما مع الترخيص الظاهري في كل منهما ، وهذان لا يجتمعان.
وثانياً: الترخيص في المخالفة القطعية.
هذا هو إعتراض المحقق النائيني على صاحب الكافية.
لكن عند ملاحظة كلام صاحب الكفاية من الواضح أنّ الإحتمال الأول غير مطروح فيه ، وهو يؤمن باشتراك الأحكام بين العالم والجاهل فهذا الإحتمال مستبعد جداً ، فلا يرد عليه أنه يخالف ما دل على إشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ، ولا يرد عليه أيضاً محذور أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم وما يلزمه من الإشكالات المتقدمة.
وإنما مقصوده هو أنَّ فعلية الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال منوطة بعدم جريان الأصل في الطرفين ، أي أنَّ حكم العقل بمنجزية العلم الإجمالي معلقة على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، فلا مانع من جعل الترخيص الظاهري في أطراف العلم الإجمالي ولا يكون هذا منافياً لشيء.
ولا يلزم ما ذكره المحقق النائيني ، أما التناقض فيتحقق عندما يكون الحكم الواقعي الإلزامي فعلياً فيكون جعل الترخيص الظاهري الفعلي منافياً له ، ولكنه يقول أنَّ الحكم الواقعي الإلزامي ليس تام الفعلية من جميع الجهات فلا يناقض الترخيص الظاهري في طرفي العلم الإجمالي ، وهذا نظير الشبهات البدوية إذ يحتمل فيها ثبوت الحكم الواقعي لكن الشارع جعل فيها الترخيص الظاهري ولا منافاة بينهما ، نعم في الشبهات البدوية إحتمال التكليف غير مقرون بالعلم الإجمالي وفي المقام مقرون به ، لكن مرتبة الحكم الظاهري محفوظة في الموردين.
وأما محذور الترخيص في المخالفة القطعية فلا يرد عليه أيضاً مع ترخيص الشارع نفسه في إرتكاب كِلا الطرفين ، وإنما تتحقق المخالفة القطعية مع عدم ترخيص الشارع فيها.
وهذا كله يأتي من النكتة المتقدمة وهي أنه يرى أنَّ حكم العقل بالمنجزية معلّق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع فإذا ورد فلا يحكم العقل بالمنجزية حتى يكون الترخيص مخالفاً لحكم عقلي.