الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/العلم الإجمالي/حرمة المخالفة القطعية/ البحث الثاني: العلية أو الإقتضاء

ذكرنا في الدرس السابق أنّ مجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية مما لا ينبغي التشكيك فيها ، وكون العلم الإجمالي بياناً لا ينبغي التشكيك فيه أيضاً ولا يمكن أن يكون كالاحتمال بل وهو بيان تام على الحكم الشرعي بمعنى أنه بيان على الجامع بين التكليفين لأنَّ المكلف يعلم قطعاً وبلا تردد بحرمة أحد الإنائين أو وجوب أحدى الصلاتين فالتكليف وصل الى المكلف على نحو الجزم واليقين فلا ينبغي التشكيك في ذلك ، وإنما ينصب الكلام على الجهة الثانية في البحث وهي أنَّ المنجزية للعلم الإجمالي هل هي على نحو العلية التامة أم على نحو الإقتضاء ، ويترتب على هذا الخلاف إمكان جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي أو عدم إمكانه ، فعلى القول بالعلية التامة لحرمة المخالفة القطعية لا يمكن جريان الأصول الترخيصية في الأطراف لأنه يعي التفكيك بين العلم الإجمالي وبين حرمة المخالفة القطعية لترخيص الشارع في إرتكاب كِلا الإنائين بحسب الفرض ، وهذا خلف فرض كون العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية.

وأما على القول بالإقتضاء فيمكن جريان الأصول الترخيصية في جميع أطراف العلم الإجمالي ولا يلزم من ذلك شيء لأنه مقتضٍ فقط على هذا الفرض فإذا إقترن بالمانع فلا يؤثر في حرمة المخالفة القطعية.

وهذا في روحه يرجع الى أنَّ المنجزية الثابتة للعلم الإجمالي هل هي منجزية فعلية وغير معلقة أم هي معلقة على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ؟ فالقول بالعلية التامة يعني أنَّ المنجزية فعلية وغير معلقة شيء آخر ولا تنفك عن العلم الإجمالي فيستحيل ورود الترخيص في جميع الأطراف ، والقول بالإقتضاء يعني أنَّ المنجزية معلقة على عدم ورود ترخيص من قِبل الشارع ، ويعني أنه لا مانع من ورود الترخيص في جميع الطراف ، هذا هو الكلام في الجهة الثانية.

المشهور ذهب الى الأول - العلية التامة - الذي يعني إستحالة التفكيك بين العلم الجمالي وبين حرمة المخالفة القطعية كما هو الحال في العلم التفصيلي ، والذي يعني أيضاً أنَّ منجزية العلم الإجمالي منجزية فعلية وليست معلقة على شيء ، وخالف صاحب الكفاية في ذلك وذهب الى أنَّ العلم الإجمالي مقتضٍ لحرمة المخالفة القطعية فلا مانع من ورود الترخيص في جميع الأطراف فتجري فيها الأصول المؤمنة وتُرخِّص في المخالفة القطعية.

وإستدل المشهور على القول الأول بوجوه :

الأول: إنَّ المخالفة القطعية معصية للمولى ، معصية المولى قبيحة بحكم العقل ، فالترخيص في جميع الأطراف ترخيص في المعصية التي يحكم العقل بقبحها ، والترخيص في القبيح قبيحٌ ، وهذا لا يعقل صدوره من الشارع ، فهو محال.

والحاصل: أنّ الشارع لا يمكن أن يرخص فيما هو قبيح ، والمخالفة القطعية قبيحة بحكم العقل فلا يُعقل ورود الترخيص بها من قبل الشارع.

الثاني: لزوم التنافي بين الحكم الواقعي الواصل الى المكلف بالعلم الإجمالي وبين الترخيص في الأطراف في مقام الإمتثال على الأقل ، فالمكلف عالم بحرمة شرب أحد هذين الإنائين وهذا حكم إلزامي واصل الى المكلف بالعلم الإجمالي ويلزمه بترك شرب أحد هذين الإنائين ولا يكون ذلك إلا بتركهما معاً ليتيقن باجتناب الحرام الواقعي المردد بينها ، والترخيص يقول يجوز إرتكابهما ، وهذا تنافٍ بين الحكم الواقعي الواصل الى المكلف بالعلم الإجمالي وبين الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ، فكيف يصدر من الشارع حكماً منافياً للحكم الواقعي.

الثالث: لزوم إجتماع الضدين على القول بإمكان ورود الترخيص الشرعي في أطراف العلم الإجمالي إما واقعاً فيما إذا كان العلم الإجمالي مصيباً للواقع أو في نظر العالم بالإجمال على الأقل فيما إذا لم يكن علمه الإجمالي مصيباً للواقع ، والضدان هما الحكم الإلزامي الواقعي المعلوم بالإجمال والترخيص الشرعي في الأطراف فالإباحة تضاد الوجوب أو الحرمة ، فالتنافي وإجتماع الضدين يمنعان من القول بإمكان ورود الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ، وهو ما يريد إثباته المشهور.

وأما القول الآخر الذي إختاره صاحب الكفاية - الإقتضاء - فاستدل عليه بدليل له مقدمتان:

المقدمة الأولى: أنَّ مرتبة الحكم الظاهري في موارد العلم الإجمالي محفوظة بعد وضوح عدم إنحفاظها في مرتبة العلم التفصيلي ، فإنَّ الحكم الظاهري يثبت في حالة الشك ولا شك مع العلم التفصيلي بالتكليف فلا تكون مرتبة الحكم الظاهري في موارد العلم التفصيلي محفوظة ولذا لا يمكن جعل الحكم الظاهري في موارده وهذا واضح ، كما أنَّ مرتبة الحكم الظاهري في موارد الإحتمال الصرف محفوظة بلا إشكال فيمكن جعل الحكم الظاهري فيها ، وإنما الكلام في موارد العلم الإجمالي وصاحب الكفاية يقول إنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه أيضاً وذلك بإعتبار ملاحظة الإطراف فكل طرف مشكوك وإن كان الجامع لا شك فيه ، ولو فرض عدم الشك في الأطراف لأنقلب العلم الإجمالي الى علم تفصيلي.

المقدمة الثانية: إنّ فعلية كل تكليف - أي وصوله الى مرحلة الباعثية والمحركية - منوطة بوصله الى المكلف ومع عدم ذلك لا يكون التكليف محركاً ولا باعثاً ولا زاجراً حتى لو كان ثابتاً في الواقع ، وقبل ذلك لا يكون الحكم باعثاً وإنما هو حكم إنشائي ، ومن الواضح أنَّ التضاد بين الأحكام إنما يكون في مرحلة الفعلية ، أي يكون كُلّاً منهما واصلاً الى المكلف فيقال إنّ الحكمين متضادان ومتنافيان ، وأما إذا فرضنا أنهما ليسا كذلك بأن نفترض أنّ أحدهما كان فعلياً واصلاً الى المكلف والآخر غير واصل اليه فلا تضاد بينهما ولا مانع من إفتراضهما معاً ، ولا تنافٍ بينهما في مقام الإمتثال لأنَّ الواصل الى المكلف حكم واحد وغير الواصل لا يقتضي تحركاً منه فلا يكون ما يقتضيه أحد التكليفين مخالفاً لما يقتضيه الآخر ، عليه لا مانع من إفتراض إباحة فعلية من جميع الجهات واصلة الى المكلف مع حرمة إنشائية غير واصلة إليه ، ولا تضاد بينهما ، وبناءً على هاتين المقدمتين يتبين إمكان جعل الحكم الظاهري في إطراف العلم الإجمالي ولا إستحالة فيه.

والحاصل أنّ الحكم الواقعي المعلوم إجمالاً لما لم ينكشف إنكشافاً تاماً لا يكون تام الفعلية فلا يكون مُنجّزاً فلا ينافي جعل الحكم الظاهري المخالف في مورده.

فما يفهم من كلامه هو الرد على المشهور في مسألة التنافي بين الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال وبين الترخيص في الأطراف ، وهذه هي نفس المشكلة المذكورة في الشبهات البدوية ، والمذكورة أيضاً في الشبهات غير المحصورة حيث جوّزوا جريان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ولم يمنعهم التنافي بين الترخيص في جميع الأطراف وبين الحكم الواقعي المعلوم إجمالاً ، فما فرقه عن محل الكلام وهو العلم الإجمالي إذا كانت أطرافه محصورة ؟

وفي الشبهات البدوية قالوا لا مانع من جريان الترخيص فيها مع أنَّ التنافي وارد أيضاً بإعتبار وجود إحتمال التكليف الواقعي في مورد الشبهة البدوية فكيف يجعل الترخيص! مع أنَّ المحال ينبغي القطع بعدمه ولا يصح إحتمال تحققه ، وفي الشبهات البدوية نحتمل تحقق المحال إذا قلنا بجريان الأصول المؤمنة فيها فعلى تقدير وجود الحكم الواقعي سوف يلزم التنافي بينه وبين الترخيص الثابت بالأصول المؤمنة ، والجواب الذي يُذكر هناك يجري في محل الكلام.