43/03/26
الموضوع: القطع/ حجية الدليل العقلي / الجواب عن دعوى علمائنا الأخباريين
الكلام في العلم الإجمالي يقع في مقامين:
المقام الأول في منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية التي تتحقق بإرتكاب كِلا الطرفين في الشبه التحريمية وترك كِلا الطرفين في الشبهة الوجوبية.
المقام الثاني في منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية التي لا تتحقق إلا بترك كِلا لطرفين في الشبهة التحريمية والإتيان بكِلا الطرفين في الشبهة الوجوبية.
حرمة المخالفة القطعية
أما المقام الأول فيقع الكلام فيه في بحوث ثلاثة ، وهي:
البحث الأول في أنَّ العقل هل يرى العلم الإجمالي بياناً على التكليف الشرعي كما هو الحال في العلم التفصيلي ، بحيث يكون رافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان كما أنَّ العلم التفصيلي يكون رافعاً لموضوعها فلا تجري القاعدة مع العلم الإجمالي بالتكليف أو أنَّ العقل لا يراه بياناً فيكون كاحتمال التكليف لا يرفع موضوع القاعدة، وكما أنَّ القاعدة تجري مع إحتمال التكليف لتحقق موضوعها _ وهو عدم البيان _ فكذلك تجري في العلم الإجمالي لأنه ليس بياناً على التكليف.
وعلى فرض أن يكون بياناً على التكليف في البحث الأول ورافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ننتقل الى البحث الثاني.
البحث الثاني في إمكان ترخيص الشارع في المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ، أي أن يُرخص في إرتكاب كِلا الطرفين في الشبهة التحريمية وترك كِلا الطرفين في الشبهة الوجوبية ، وهذا ما يُعبر عنه بأنَّ العلم الإجمالي هل هو علة تامة لحرمة المخالفة القطعية أم هو مجرد مقتضٍ لها ، فإذا كان علة تامة لها فلا يُعقل ورود الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف لأنه يعني التفكيك بين العلة التامة ومعلولها ، فلا يُتصور علم إجمالي مع عدم حرمة المخالفة القطعية لأنه بحسب الفرض علة تامة لها ، فإذا قلنا بالعلية التامة فهذا يعني أنه لا يمكن الترخيص في المخالفة القطعية المتحققة بإرتكاب كِلا الطرفين في الشبهة التحريمية وترك كِلا الطرفين في الشبهة الوجوبية.
وأما إذا كان العلم الإجمالي مقتضٍ لحرمة المخالفة القطعية فلا مانع من ورود الترخيص الشرعي في إرتكاب المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ، لأنَّه مقتضٍ فقط فإذا حصل مانع من تأثير هذا المقتضي في حرمة المخالفة القطعية فلا يؤثر فيها ، والمانع هو ورد الترخيص الشرعي الذي يُجوِّز مخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال.
وبعبارة أخرى: الكلام يقع في أنَّ حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال والتي يحكم بها العقل هل هي منجَّزة ومطلقة وفعلية أم هي معقلة على عدم ورود ترخيص من قِبل الشارع ، فالعلم الإجمالي يؤثر في حرمة المخالفة القطعية كحرمة مُنجَّزة فعلية غير معلقة على شيء أو أنَّ الحرمة تثبت بالعلم الإجمالي ولكنها معلقة على عدم ورد ترخيص من قِبل الشارع ، فعلى الأول لا يُعقل ورود الترخيص الشرعي وعلى الثاني يمكن وروده ، لأنّ تأثير العلم الإجمالي فيها معلق أساساً على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، ويكون وروده رافعاً لموضوع حرمة المخالفة القطعية.
البحث الثالث وهو بحث إثباتي ، فعلى تقدير الإمكان - أي إذا فرغنا في البحث الأول من أنَّ العلم الإجمالي بيان كالعلم التفصيلي وفرغنا في البحث الثاني عن إمكان ورود الترخيص الشرعي في المخالفة القطعية - يقع الكلام في إمكان إستفادة شمول أدلة الأصول العملية المؤمِّنة لأطراف العلم الإجمالي أو عدم شمولها ، فإنّ هذا الطرف من أطراف العلم الإجمالي في الشبهة التحريمية مشكوك ويمكن أن يجري فيه الأصل المؤمِّن ، فهل دليل الأصل المؤمِّن فيه قابلية الشمول لأطراف العلم الإجمالي أو هو مختص بالشبهات البدوية ، وهذا بحث إثباتي.
أما البحث الأول وهو أنَّ العقل هل يرى العلم الإجمالي بياناً على التكليف ومانعاً من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ورافعاً لموضوعها - وهو عدم البيان - أم لا يرى ذلك ، هذا هو البحث الأول.
الصحيح والمعروف وهو أنه بيان على التكليف كالعلم التفصيلي لأنَّ المكلف العالم بالإجمال أصبح عالماً بالتكليف الشرعي وهو حرمة إرتكاب أحد هذين الإنائين ، بل يمكن القول أنَّ المكلف لديه علم تفصيلي بحرمة الجامع بين الطرفين أو حرمة الواقع أو حرمة الفرد المردد على الخلاف الآتي في هوية العلم الإجمالي ، فعلى كل التقادير هناك علم تفصيلي به ، نعم هناك تردد وإجمال في الأطراف أما الجامع فمعلوم تفصيلاً ، فوجوب أحد الأمرين معلوم تفصيلاً للمكلف ، نعم لا هو يعلم بوجوب صلاة الظهر ولا يعلم بوجوب صلاة الجمعة أما الجامع فمعلوم له تفصيلاً قطعاً والعلم الإجمالي يكون بياناً على الجامع و ينجِّزه عليه ، فمسألة منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وكونه بياناً رافعاً لموضوع قاعدة فبح العقاب بلا بيان مما لا إشكال فيه ولا ينبغي أن يقع فيه الإشكال ، وإنما الكلام ينبغي أن يقع في نوع منجزيته لحرمة المخالفة القطعية فهل هي منجزية بنحو العلة التامة أم بنحو الإقتضاء ، وهذا هو البحث الثاني.
وبعبارة أخرى إنَّ العقل عندما تُعرض عليه هذه القضية فلا إشكال في أنه يحكم بقبح المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال ولكنه لا يحكم بقبح مخالفة التكليف الشرعي مطلقاً وإنما يحكم بقبح مخالفة التكليف الشرعي الواصل الى المكلف ، أي الذي تم عليه البيان ، لكن البيان هل هو العلم التفصيلي فقط أم يعم العلم الإجمالي أيضاً؟
الوجدان والإعتبار يحكم بقبح معصية الشارع في تكاليفه المعلومة تفصيلاً والمعلومة إجمالاً ، بل لا يرى فرقاً بينهما ، فكل منهما معصية وتمرد على المولى وخروج عن زي العبودية له سبحانه بلا فرق ، وهذا معنى أنّ العلم الإجمالي بيان ومنجّز لحرمة المخالفة القطعية.
قد يقال بأنَّ العقل وإن كان يحكم بقبح عصيان المولى ومخالفته القطعية ، لكن معصية المولى لا تتحقق إلا مع العلم بالمخالفة حين العمل وعندئذٍ تكون معصية قبيحة فتثبت المنجزية وحرمة المخالفة القطعية وقبحها بحكم العقل ، وهذا لا يتحقق إلا مع العلم التفصيلي بالتكليف ، ولا يتحقق هذا الشرط في مورد العلم الإجمالي لأنَّ المكلف عندما يرتكب أحد الطرفين لا يعلم بالمخالفة حين العمل لإحتمال أن يكون الحرام موجوداً في الطرف الآخر وكذا الكلام إذا أراد إرتكاب الطرف الآخر فإنه يحتمل وجود الحرام في الطرف الأول ، نعم إذا شرب كُلاً منهما فيعلم بعد ذلك أنه إرتكب المخالفة قطعاً ، ولكن هذا لا محذور فيه أيضاً ، لأنه عند إرتكاب الإناء الأول لا يعلم بالمخالفة بلا إشكال ، وإذا إرتكب الإناء الثاني فلا يعلم أيضاً بالمخالفة حين العمل ، نعم هو يعلم بعد ذلك بحصول المخالفة منه إما بهذا وإما بذاك ، وتحصيل العلم بصدور المخالفة لا محذور فيه.
وعلى كل حال شرط كون المعصية مما يحكم العقل بقبحها وبالتالي حرمتها هو العلم بالمخالفة حين العمل وهو لا يتحقق إلا في العلم التفصيلي ، فالمخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال لا يحكم العقل بقبحها لعدم الشرط المتقدم.
والجواب عنه هو أنه لا إشكال ولا خلاف ولا ينبغي أن يقع الخلاف في أنَّ حكم العقل بقبح مخالفة المولى أُخذ فيه وصول التكليف ، ويشهد لذلك حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، أي من دون وصول ، فالوصول مأخوذ في حكم العقل بقبح المخالفة بلا إشكال ، لكن هل يعتبر قيد آخر في حكم العقل بالقبح ؟
يظهر من هذه الدعوى أنه يُعتبر فيه شيء آخر غير الوصول وهو العلم بالمخالفة حين إرتكاب العمل ، ثم يُقال أنه لا يحصل إلا في موارد العلم التفصيلي ، والجواب هو إنَّ هذا القيد والذي يعني إعتبار التمييز لا دليل عليه ،
فالعقل يحكم بقبح هذا الإرتكاب سواء ميّز المكلف الحرام وارتكبه أم عَلِمَ بحرمة أحد شيئين وارتكبهما فهو وإن لم يكن عالماً حين إرتكاب الطرف الأول بأنه هو الحرام ولم يكن عالماً حين إرتكاب الطرف الثاني بأنه هو الحرام فالعقل يحكم بقبح هذا الإرتكاب فأيضاً ، فإشتراط التمييز لا دليل عليه ، بل هو خلاف ما يُدركه العقل من قبح معصية التكليف إذا وصل الى المكلف.
ولعله يشهد لهذا أنه لا إشكال عندهم في قبح إرتكاب كِلا الطرفين في العلم الإجمالي دفعة واحدة مع عدم التمييز بينهما ، وارتكابهما معاً حاله حال إرتكاب كُلاً منهما تدريجاً في حكم العقل بقبح هذه المخالفة للتكليف الواصل للمكلف ، هذا كله في البحث الأول.
وبعد الفراغ عن كون العلم الإجمالي بياناً وليس كالاحتمال فحينئذٍ نتكلم في البحث الثاني وهو في أنَّ منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية هل هي بنحو العلية التامة أم بنحو الإقتضاء.
وبعبارة أخرى: أنَّ حكم العقل بالمنجزية هل هو حكمٌ تنجيزي فعلي غير معلق على شيء أو هو حكم معلق على عدم ورود الترخيص من قِبل الشارع ، فإذا قلنا بالأول فهو القول بالعلية التامة وإذا قلنا بالثاني فهو القول بالإقتضاء والتعليق على شرط وهو عدم ورود ترخيص من الشارع في المخالفة ، فإذا ورد إرتفع موضوع الحكم العقلي ، فالعلم الإجمالي يقتضي حرمة المخالفة القطعية و ورود الترخيص يمثل المانع الذي يمنع من تأثير هذا المقتضي في حرمة المخالفة القطعية.