الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي / الجواب عن دعوى علمائنا الأخباريين

هناك أجوبة أجيب بها عما نُسِب الى علمائنا الأخباريين من أنَّ إطاعة الأحكام تكون منوطة بوصولها من طريق الأئمة عليهم السلام ، وهي عديدة نذكر جوابين كنموذج من هذه الأجوبة :

الجواب الأول ما ذكره الشيخ الأنصاري قده:

إن هذا القيد متحقق في مَن قطع بالحكم من الدليل العقلي ، فلماذا لا يجب عليه إطاعة الحكم الذي علِم به من الدليل العقلي ، أما تحقق القيد في حق المكلف فباعتبار أنه إذا عَلِم بالحكم من الدليل العقلي فسوف يقطع بأنّ الشارع قد بلَّغ هذا الحكم فلا تكون هناك منافاة بين ما ذكره الأخباريون من أنَّ طاعة الأحكام منوطة بوصولها عن طريق النقل وبين لزوم طاعة الأحكام الشرعية التي يقطع بها المكلف من الدليل العقلي ، لأنَّ القطع بالحكم من الدليل العقلي يلازم القطع بتبليغ الحجة له، إذن هذا الحكم قد بلَّغه الحجة فتجب طاعته ويتحقق القيد الذي ذكروه.

أما ثبوت الملازمة بين الحكم الذي قطع به المكلف من الدليل العقلي وبين تبليغ الحجة له فاستدلوا له بروايات من قبيل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في خطبة الوداع أنه قال:

)يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ..)[1]

فليس هناك شيء يُقرِّب الى الجنة أو يُقرِّب الى النار إلا وقد أمر به الشارع أو نهى عنه ، وما يقطع به المكلف من الدليل العقلي إما يُقرِّب الى الجنة أو يُقرِّب الى النار أي إما يقطع بالوجوب أو يقطع بالحرمة ، فإذا كان مما يُقرِّب الى الجنة فهناك أمرٌ به بمقتضى هذا الحديث وإذا كان يُقرِّب الى النار فهناك نهي عنه ، فتثبت الملازمة ، وبناءً عليه ليس للأخباري أن يقول إنَّ الحكم الذي يقطع به المكلف من الدليل العقلي لا تجب طاعته لأنه مأخوذ من غير طريق الحجة.

ويلاحظ عليه: إنّ هذا الجواب بهذه الصياغة فيه خلط فإنَّ المنسوب الى الأخباريين هو تقييد الأحكام الفعلية ووجوب إطاعتها بوصولها من طريق الحجة وهذا غير تقييد الأحكام بتبليغ الحجة لها ، ومن الواضح أنه لا توجد ملازمة بين القطع بالحكم الشرعي من الدليل العقلي وبين وصوله من طريق الحجة ، نعم لو كان القيد هو تبليغ الحجة لها فيمكن أن يقال أنَّ ما يقطع به المكلف من الدليل العقلي سوف يقطع بتبليغ الحجة له إعتماداً على هذه الرواية أو غيرها ، ولكنه غير مدعى الأخباريين ، فلا يصح أن يكون هذا جواباً عن مدعاهم.

الجواب الثاني: ما ذكره السيد الأستاذ قده :

أنَّ الكتاب أمَرّنا بإتباع العقل وذمّ مَن لا يتبعه ومثله الروايات ، وعلى الأقل العقل الفطري الخالي من الشوائب الذي نُثبت به أصول الدين وأمرت النصوص الشرعية بإتباعه ، فيكون الرجوع الى العقل والعمل به بأمر الشارع وليس على خلاف ما أمَرَ به ، وهو نظير ما إذا أمرنا بالعمل بالقرعة فهو عمل برضا الشارع ، فهنا إذا وصل المكلف الى حكم عن طريق الدليل العقلي فهو عمل بأمر الشارع ورضاه.

ويلاحظ عليه:

أنَّ الكلام ليس في العقل الفطري الخالي من الشوائب بل كلامنا في العقل النظري والعملي فهل يمكن الإعتماد عليه لإثبات الحكم الشرعي أو لا ، ولابد من دليل على ذلك.

هذه نماذج من الأجوبة التي أُجيب بها عن الكلام الأخباريين نكتفي بها ونختم الكلام عن هذا البحث.

فرع فقهي

في ذيل بحث القطع وفي خاتمة البحث عن الدليل العقلي تعرّض الشيخ الأنصاري الى بعض الفروع التي يُتوهم منها نهيُ الشارع عن العمل بالقطع ، وهذا يوهم بل يدل على إمكان ردع الشارع عن العمل بالقطع ، نذكر منها نموذجاً واحداً وهو :

إذا فُرض أنَّ المكلف علم إجمالاً بجنابته أو جنابة زيد ، فهذا علم إجمالي لكنه غير مُنجِّز لأنه لا يُنجِّز التكليف على المكلف على كل تقدير كما لو علم أنه تجب عليه إما صلاة الظهر أو صلاة الجمعة فالمعلوم بالإجمال على تقدير أن يكون هو صلاة الظهر فهو يُنجِّز التكليف على العالم بالإجمال وعلى تقدير أن يكون الجمعة فكذلك ، وأيضاً العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين فسواءً كان النجس الواقعي هو هذا الإناء فينجِّز عليه حرمة الشرب أو ذاك الإناء فكذلك ، وهذا هو العلم الإجمالي المنجِّز ، وأما الفرض المتقدم فالعلم الإجمالي لا يُنجز التكليف على كل تقدير لأنّ الجنابة على تقدير أن تكون منه فيتنجَّز عليه التكليف ويحرم عليه ما يحرم على الجُنب ويجب عليه ما يجب على الجُنب ، ولكن على تقدير أن يكون الجُنب زيداً فلا يُنجِّز عليه التكليف ، فالتكليف يتنجّز هنا على أحد التقادير لا على جميعها ، فيمكن للمكلف إجراء الأصول العملية المؤمِّنة ورفع التكليف ، وإذا فرضنا أنَّ هذا المكلف أجرى الأصول المؤمنة ثم صادف أنه إقتدى بصلاته بزيد فسيحصل له علم تفصيلي ببطلان صلاته إما من جهة جنابته أو من جهة جنابة إمامه ، وهذا علم وقطع تفصيلي بالحكم الشرعي وهو بطلان الصلاة الذي يترتب عليه وجوب الإعادة ووجوب القضاء ، فبإجراء الأصول المؤمّنة جاز أن يصلي خلفَ زيد وأن لا يعتني بالقطع بالحكم الشرعي ، والحال أنه يلزم من ذلك حصول العلم التفصيلي ببطلان الصلاة ، فيُفهم من هذا إمكان التفكيك بين العلم وبين الحجية من قبل الشارع!

ثم أجاب الشيخ عنه وعن غيره من الفروع في الرسائل ولا نطيل الكلام بذكرها.

العلم الإجمالي

وهو من البحوث الهامة ، والمناسبة من ذكر بحث العلم الإجمالي بعد بحث القطع بإعتبار أننا فرغنا عن حجية القطع ، وهي تعني منجزية التكليف على مستويين ، مستوى وجوب الموافقة القطعية ومستوى حرمة المخالفة القطعية ، فالمكلف العالم تفصيلاً بحرمة شرب النبيذ علمه يُنجِّز عليه هذه الحرمة بمعنى أنه يُلزمه بعدم مخالفتها قطعاً ويلزمه أيضاً بوجوب موافقتها قطعاً ، هذا ما كان الكلام عنه بعنوان القطع.

والبحث هنا في أنَّ العلم الإجمالي هل هو كالعلم التفصيلي فيُنجِّز التكليف المعلوم بالإجمال على كِلا المستويين - وجوب الموافقة القطعة وحرمة المخالفة القطعية - أم هو كالاحتمال لا يُنجِّز شيئاً بناءً على المسلك المشهور؟

وبعد الفراغ عن المنجزية للعلم الإجمالي هناك بحث آخر يقع في أنَّ هذه المنجزية هل هي بنحو العلية التامة بحيث يستحيل التخلف أو هي بنحو الإقتضاء ، وهو بحث مهم جداً ، ويظهر الأثر في إمكان ورود الترخيص في كِلا الطرفين أو في أحدهما ، فعلى القول بالعلية التامة لوجوب الموافقة القطعية لا يمكن ورود الترخيص في أحد الطرفين فضلاً عن كليهما ، لأنَّ ورود الترخيص على هذا التقدير يعني التفكيك بين العلة التامة وبين معلولها ، وإذا قلنا بأنه علة تامة لحرمة المخالفة القطعية فهو يعني يستحيل ورود الترخيص في كِلا الطرفين.

وعلى القول بالإقتضاء فلا مانع من ورود الترخيص في أحد الطرفين ، ويكون مانعاً من تأثير المقتضي في الـمُقتضَى.

وهكذا إذا قلنا بأنَّ العلم الإجمالي فيه إقتضاء لحرمة المخالفة القطعية فلا مانع من ورود الترخيص في كِلا الطرفين، وهذا المقتضي إنما يؤثر أثره مع عدم المانع و ورود الترخيص في كِلا الطرفين يعتبر مانعاً من تأثير المتقضي في المعلول.

فهناك بحثان:

البحث الأول بحثٌ عن أصل منجزية العلم الإجمالي وهل هو كالعلم التفصيلي في تنجيز التكليف المعلوم بالإجمال على مستوى وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية.

والبحث الثاني بعد الفراغ عن منجزية العلم الإجمالي هل هذه المنجزية من باب العلية التامة أم من باب الإقتضاء.

وهناك بحث عن العلم الإجمالي يذكر في موضع آخر من الأصول وهو في بحث الأصول العملية ، وله مناسبة في محل الكلام ، وهناك يُبحث في أنَّ الأصول العملية هل تجري في أطراف العلم الإجمالي كُلَّاً أو بعضاً ، وهذا بحث إثباتي عن شمول أدلة الأصول العملية لأطراف العلم الإجمالي.

وبعبارة أخرى لا إشكال في شمول أدلة الأصول العملية للشبهات البدوية فهل تشمل الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي أم لا ، وهو بحث إثباتي في دلالة أدلة الأصول العملية.

ومن هنا يتبين أنّ البحث بشكل عام ينبغي أن يقع في مقامين رئيسيين:

المقام الأول في حرمة المخالفة القطعية.

المقام الثاني في وجوب الموافقة القطعية.

والمقام الثاني مبتني على المقام الأول ، أي بعد الفراغ عن حرمة المخالفة القطعية يقع البحث في وجوب الموافقة القطعية ، وأما إذا قلنا في المقام الأول بعدم حرمة المخالفة القطعية كما إذا قلنا بأنه لا مانع في الشبهة الوجوبية من ترك كِلا الطرفين وفي الشبهة التحريمية لا مانع من إرتكاب كِلا الطرفين فلا مجال للقول بوجوب الموافقة القطعية _ أي المقام الثاني _ ، فإذا قلنا مثلاً للمكلف يجوز لك ترك كِلا الصلاتين ولا تحرم عليك المخالفة القطعية فمن الأولى أنه لا تجب عليه الموافقة القطعية ، بل يكون ذلك مُستبطناً في نفس إفتراض عدم وجوب حرمة المخالفة القطعية ، ولذا لا نصل الى المقام الثاني إلا إذا فرغنا عن المقام الأول.

 


[1] الكافي، الكليني ج2 ص74، ط. الإسلامية.