الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الأصول

43/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : القطع/ حجية الدليل العقلي / توجيه كلام الأخباريين والجواب عنه

قلنا قد يقال إنَّ الدليل العقلي وإن كان لا قصور فيه لكن الأدلة الشرعية نهت عن الإعتماد عليه وإتباعه ، وهذا النهي إما أن يُفسر بالنهي عن العمل بالقطع الحاصل من الدليل العقلي بعد فرض حصوله ، وإما أن يفسر بالنهي عن الخوض في المقدمات العقلية ، أما التفسير الأول فقد تقدم أنه غير معقول لأنَّ القطع حجيته ذاتية ولا يُقعل سلبها عنه بعد فرض حصوله فلابد من اللجوء الى التفسير الثاني فنقول:

إنّ المقصود من النهي عن إتباع الدليل العقلي هو النهي عن الخوض في المطالب العقلية ، وهذا لا محذور فيه بإعتبار أن المكلف القاطع بالحكم الشرعي من الدليل العقلي وإن كان لابد من أن يعمل بقطعه ولا يمكن سلب الحجية عن هذا القطع وهو مضطر الى العمل به لكن إضطراره هذا مسبوق بسوء الإختيار ، لأنَّ المفروض أنَّ الشارع نهاه عن الخوض في المقدمات العقلية ولكنه خالفه وخاض فيها فأوصله ذلك الى القطع بالحكم الشرعي فأصبح مضطراً الى العمل بالقطع لكنه إضطرار مسبوق بسوء الإختيار ، وهذا لا ينافي تنجُّز الواقع عليه ويكون مستحقاً للمؤاخذة بإعتبار تقصيره في مقدمات العقلية التي خاض فيها وهو منهي عن ذلك ، فيُحمل كلام الأخباريين على هذا المعنى لا على سلب الحجية عن القطع بعد فرض حصوله.

ويلاحظ عليه:

أولاً: لا دليل على النهي عن الخوض في المطالب العقلية بهذا المعنى ، وإنما الموجود هو النهي عن العمل بالرأي وما يدور مداره ، وهو النهي عن العمل بالأدلة العقلية الظنية المتعارف عليه عند غيرنا.

ثانياً: لو سلَّمنا وجود أخبار رادعة عن العمل بالأدلة العقلية لكن يوجد في مقابلها أدلة معارضة لها وهي الأدلة الدالة على لزوم إتباع العلم والعمل به وهي كثيرة من الآيات والروايات ، والنسبة بين هذين الدليلين هي العموم والخصوص من وجه ، وبيان ذلك:

هناك أدلة تدل على لزوم إتباع العلم وتنهى عن إتباع الظن وهي مطلقة وتشمل العلم الحاصل من الدليل النقلي والعلم الحاصل من الدليل العقلي ، هذه جهة العموم في هذه الأخبار.

وفي المقابل هناك أدلة تردع عن العمل بالرأي وهي تشمل بمقتضى إطلاقها الرأي الحاصل من العقل سواء كان قطعياً أو ظنياً ، والنسبة بين الطائفتين هي نسبة العموم من وجه ومادة الإجتماع هي ما إذا كان الرأي قطعياً وحاصلاً من الدليل العقلي ، لأنَّ الأدلة الأولى الآمرة تشمله وتدل على وجوب إتباعه كما أنَّ الأدلة الناهية عن العمل بالرأي تشمله أيضاً لأنها تنهى عن العمل بالرأي مطلقاً أي سواءً كان الرأي ظنياً أم كان قطعياً ، فمادة الإجتماع هي الرأي القطعي الحاصل من الدليل العقلي ، فيقع التعارض بين هاتين الطائفتين في مادة الإجتماع وهي محل كلامنا ويتساقطان فلا يبقى دليل على النهي عن العمل في محل الكلام.

والأخباريون ذكروا جملة من الأخبار التي إستدلوا بها على مدعاهم هو أنّ المستفاد منها هو أنَّ وجوب إطاعة الأحكام الشرعية منوط بوصولها من الأدلة النقلية ، وأما إذا وصل الحكم لا من هذا الطريق كما إذا وصل من طريق الأدلة العقلية فالحكم هنا لا وجود له بنظر الشارع ، والروايات التي ذكروها والتي تدل على أنَّ إطاعة الأحكام الشرعية منوط بوصولها عن طريق السماع من الصادقِين كما في الروايات ، وهي عديدة ذكرها الشيخ الأنصاري في الرسائل:

فمنها رواية زرارة الواردة في الباب 6 من أبواب صفات القاضي الحديث 13، وهي صحيحة ظاهراً :

(..عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل في الإِمامة وأحوال الإِمام ـ قال: أما لو أنَّ رجلاً صام نهاره، وقام ليله ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله ثواب ، ولا كان من أهل الإِيمان.)[1] 1)

ومنها: ما في الكافي باب من مات وليس له امام من أئمة الهدى الحديث 4:

)بعض أصحابنا، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن مالك بن عامر، عن المفضل بن زائدة، عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : من دان الله بغير سُماعٍ عن صادقٍ ألزمه الله - البتة - إلى العناء ومن ادعى سُماعاً من غير الباب الذي فتحه الله فهو مشرك ، وذلك الباب المأمون على سر الله المكنون.)[2] 2)

وذكر الشيخ الأنصاري في الرسائل أنه يُحتمل أن يراد فيها ما تقدم سابقاً من أنَّ الأحكام لا تصير فعلية إلا إذا وصلت إلينا عن طريق الحجة أي عن طريق الأدلة النقلية ، وأما إذا وصلت من غيرها فلا تصير الأحكام فعلية ، أي أنَّ فعلية الأحكام منوطة بالعلم بها من الأدلة النقلية أو أنَّ العلم بالأحكام من الأدلة العقلية يُشكل مانعاً من وصول الأحكام الى مرحلة الفعلية كما مر.

والرواية الثانية بالخصوص حملها الشيخ الأنصاري على مسألة الاستبداد في إثبات الأحكام الشرعية بالعقول الناقصة كما ذكر ، أي بالأدلة العقلية الظنية ، بمعنى الوصول الى الأحكام الشرعية بمعزل عن الحجة وما روي عنهم عليه السلام.

وأما الرواية الأولى وهي صحيحة سنداً فيرد فيها الإحتمال الذي ذكره الشيخ الأنصاري من أنَّ الأحكام الشرعية إنما تكون فعلية وتصل الى مرحلة التنجيز وإستحقاق العقاب على المخالفة إذا كانت بدلالة ولي الله ، أي إذا وصلت عن طريق الأدلة النقلية ، وأما إذا لم تصل عن هذا الطريق فلا تكون فعلية ، وهذا معنى ليس محالاً ، فإذا اُستفيد من الرواية فلا يكون ما ذكره الشيخ الأنصاري مجرد إحتمال ثبوتي بل هناك ما يدل عليه في مقام الإثبات وهي هذه الرواية ، فيكون معنى (ما كان له على الله ثواب) هو أنَّ هذه الأحكام لا تكون فعليةً إلا إذا وصلت من طريق السُماع ، وأما إذا وصل المكلف إليها من غير هذا الطريق فلا تكون هذه الأحكام فعلية ولا يكون لها أي أثر.

أما تقريب إستفادة هذا المعنى من الرواية فبإعتبار أنَّ الرواية تنفي الثواب عن العمل الذي لا يكون بدلالة ولي الله ، ومقتضى ذلك أنه لم يُؤمر بتلك الأفعال ، لأنَّ الثواب على العمل ظاهرٌ في مطلوبيته شرعاً وعدم الثواب على العمل يكون ظاهراً في عدم مطلوبيته ، فإذا لم يكن له ثواب فيعني أنَّ هذه الأعمال غير مطلوبة ولم يُؤمر بها ، وهذا يعني أنَّ دلالة ولي الله تكون قيداً في ثبوت الحكم ، بمعنى أن الحكم والطلب والأمر لا يكون ثابتاً - بمعنى وصوله الى مرحلة الفعلية حتى يترتب عليه الثواب والعقاب - إلا بدلالة ولي الله ، هذا هو الإحتمال الذي ذكره الشيخ الأنصاري.

نعم يبقى الكلام في أنَّ نفي الثواب هل فيه دلالة على نفي المطلوبية ونفي الأمر ، بل البحث أساساً في أنّ الأجر والثواب هل فيه دلالة على مطلوبية العمل أم لا ؟

فإذا كان الأجر والثواب فيه دلالة على المطلوبية فعدم الأجر فيه دلالة على عدم المطلوبية ، وهناك تشكيك في دلالة ثبوت الأجر على شيء على المطلوبية بإعتبار أنَّ الأجر والثواب قد يثبت للفعل من دون الأمر والمطلوبية الشرعية كما إذا كان الفعل محبوباً في نفسه من قبيل الإحسان الى الغير ، وأحياناً يُعطى الأجر للمكلف لأنَّ عمله موافق للإحتياط من دون إفتراض وجود أمرٍ ، وبعضهم قال ليس هناك ملازمة واضحة بين نفي الأجر ونفي المطلوبية والأمر ، هذه ملاحظة.

والملاحظة الآخرى هي أنَّ الشيء قد يكون مأموراً به ويترتب عليه الثواب لكن الإتيان به من دون دلالة ولي الله يوجب إحباط هذا الأجر ، فلا أجر فيه مع كونه مأموراً به ، فلا نستفيد من الرواية النافية للثواب أنه لا أمر بهذه الأفعال التي صدرت منهم ولا مطلوبية لها لإحتمال أن يكون وصولهم لها من دون دلالة ولي الله موجباً لإحباط الأجر ، فيصح أن يقال لا ثواب لهم.

 


[1] (1) وسائل الشيعة، العاملي، الجزء27 ص42، ط. مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
[2] (2) الكافي، الكليني، الجزء1 ص377، نشر دار الكتب الاسلامية.